Alert (SPOILER)
كان الناس على مر العصور (على الأقل بالنسبة لروديون رومانوفتش راسكولينكوف) منقسمين الى نوعين لا ثالث لهما....
البشر العاديين وهم فئة المواد الذين يتشكل منهم الجمهور او الرعاع...مهمتهم التناسل وأن يكونوا محافظون ومنضوين تحت القوانين والخاضعين لها...تلك طبيعتهم ولا ينتقص منهم شيئاً بأنهم مطيعين خاضعين ينشدون قائداً يسوسهم ولو إلى الجحيم...والبشر الخارقين...المجددين..الخلاقين الذين يكون على عاتقهم ان ينتجوا شيئاً جديداً عظيماً وان يحركوا فعلياً عجلة التطور...قد يستلزم ذلك هدم الحاضر لبناء المستقبل على اسس متينة...ولا يتورعون لأجل ذلك أن يخرقوا الاعراف والقوانين وان يقوموا بما يظنه (العوام) الجرائم والفظائع إذا مهد ذلك لأهدافهم العليا.....كنابوليون....نيوتن والنبي محمد وغيرهم الكثيرين ممن حرك عجلة التفاعل الحضاري نحو الأمام بأن خلق توجهاً خلاقاً لم يوجد قبله....
وعلى ذلك...ولطبيعة الفئتين....فإن ما يلزم لكي يكون المرء خارقاً خلاقاً في المقام الأول هو ان يجرؤ (بعد أن استقرت في صدره منابت العبقرية) على اتخاذ الخطوة نحو هدفه...أن يجرؤ إلى أن يطأطئ ليلتقط السلطة بيده وأن ينتزعها انتزاعاً.....أن يكون شجاعاً مقداماً....فذلك ما يؤثر في الجموع وذلك ما يجعلهم في نهاية المطاف ينصاعون له...الجرأة هي كل شيء....نعم هذا هو القانون على مر العصور...
انا عبقري....أنا صاحب فكر هادف وعقل منفتح وقلب جسور.....لكن ليس يقف في وجه مجدي الشخصي وتحقيق غايتي السامية إلا قملة بشرية....مرابية عجوز تمص دم الفقراء دونما تورع....إنما قتلها ليكفر به اربعين خطيئة....ليست إلا قملة بشرية...لإن اعترضت هذه الوضيعة طريق نابوليون في مجده لسحقها من غير تورع ولا خجل دون أن يفكر مرتين......يجب التخلص منها....وبعدها سأكون كنابوليون الامبراطور العظيم.....اخطو باتجاه المجد .....اخذ من المال ما يكفي لاحسن وضعي وابني امبراطوريتي.....مجرد عمل تافه مقابل مئات الاعمال الخيرة التي تقف خلفه....
هذه الخواطر هي ما شغل بال راسكولنيكوف (المتمرد) لشهر او يزيد قبل ان يقدم على فعلته.... جميع عناصر الخطة كانت تقف في انتظام رهيب...كل شيئ كان محسوباً بدقة....لكن ما لم يكن في الحسبان هو صحة المسلمة الأولى....هل ينتمي للخارقين فعلاً.....لم يكن يقدر ان يحدد ذلك مالم ينزل بالفأس على تلك الـ"قملة البشرية".....
لكن لم يكن ينتهي من فعلته حتى بدأت تجتاحه موجات الرعب والاضطراب النفسي والحمى والكوابيس.....لم يعرف كيف يسرق ولم يستفد من سرقاته...بقي أياماً يهذي....
لم يجرؤ على ما يبدو لالتقاط السلطة....ولم يجرؤ أيضاً على أن ينتحر.....انهار في النهاية....كان أول من ناجاه واعترف له .....صونيا...الشقراء الناعمة التي اذلتها الحياة فجعلت منها بائعة هوى لتأتي بالمال لتعيل اسرتها...تلك الخجلة الوجلة المرتجفة...عندما افضى اليها بذلك...التقت عقليتان مختلفتان...عقلية الفتاة البسيطة المستسلمة للإرادة العلية المدبرة للكون....وعقلية الشاب المتمرد الذي اسكره الكبرياء واثقل عقله الهذيان والاضطراب النفسي....سيعترف...ربما لم يكن هذا الخيار مريحاً كما نتصور...في النهاية لقد فشلت نظريته حول نفسه...هو مجرد قملة اخرى...اذ لو كان نابوليون عصره لما شعر بأدنى اهتياج واضطراب بعد فعلته.....ولم يكن ليعترف لصونيا....خدش كبرياؤه....والان ليس عليه الا تقبل ألم العقاب....
جريمته (وفقاً لوجه نظره) ليست قتل العجوز المرابية....وإنما اقدامه على القتل وهو لا يملك الحق في ذلك....هو قملة كباقي الناس....واحجامه بعد ذلك عن استلام دور الخارق....
وعقابه هو تحمل الألم.... ليس ألم الأعمال الشاقة في سيبيريا...ولكن ألم الكبرياء المجروح....وذل الوقوف مذعناً بين يدي القدر اذ ليس هناك طريق لتحمل الالم الناتج والراحة بعد فعلته غير ان يجري وفق مقتضاه....