هنالك لوحات فنية عندما نراها في صالات العرض يلفت إنتباهنا الإتقان الذي فيها ونظل نفكر كيف تم رسمها وكيف تم مزج ألوانها و وضع خطوطها،وربما يدفع الفضول بعضنا لسؤال من رسمها بشكل مباشر أو البحث عن معلومات عنها من خلال كتاب أو الإنترنت،وقد لا يحصل السائل على إجابة قاطعة من الفنان بسبب تحفظ الفنان أو لرغبته في تشويق جمهوره أو حتى لعدم معرفته سبب محدد لهذا التوجه الفني عنده وربما صفحات الكتب والإنترنت فقط ستعطيه لمحة ومع ذلك فالأسئلة قائمة وتنتظر الإجابات،كتاب (إجازة تفرغ) للأديب بدر الديب يخبرنا عن الحكايات خلف لوحات أرهقت راسمها والرواية ذاتها تتبع أسلوب الكشف تدريجياً محاكية رسم اللوحات الفنية.
الرواية منقسمة إلى أجزاء مع كل جزء منها نرى شخصية البطل ونعرف منها أكثر عن الفن التشكيلي،ففي البداية يشدنا المكان والوصف الدقيق له ويبدو لنا بأن الشخصية الرئيسية متوحدة مع هذا المكان،ومن ثم تأتي أوصاف أخرى للأشخاص ولأحاديثهم من خلال إختلاسنا على منظور البطل لما هو حوله،وهذا حدث بالرغم من كون السلطة الكتابية كانت بيد الراوي أكثر منها لدى بطله ولكن بإمكاننا الإحساس بآراء هذا البطل مع الوقت،فتردد الفنان التشكيلي في حضوره لحفلة قريبة من سكنه نقل لنا الكثير من إنتقاده للحركات الثقافية في بلده آنذاك وكيف أن هناك من يدعون المعرفة وهو قام بهذا معلناً تناقضاته،ولغاية هذا الجزء من الرواية نسمع إعترافات فنية أكثر منها شخصية حتى إننا نترقب معرفة إسمه وإذا بالأسطر تتابع ونعرف بأنه فنان قرر اللجوء للإسكندرية ليرسم لوحاته بعيداً عن كل الأحداث السياسية والإجتماعية ومن ثم سنعرف بأن هناك ضغوطات عائلية يمر بها أيضاً،فهو هارب من القاهرة إلى الإسكندرية لتستعيد فرشاته قدرتها على الرسم وأصابعه على النحت مجدداً وليتنفس فنه كما يريد،وإذا بجزء آخر نفهم منه هموم الرسام النحات الخاصة أكثر وعلاقتها بشخصيته الفنية،فهو حسن عبدالسلام وهو يتيم الأب فربته أمه،وكانت في هذه التربية هي المهتمة بكل شؤون حياة ابنها وكانت تريد مقابل كل هذه الحرية الواسعة التي منحتها له والإهتمام الكريم أن يحقق لها طلباً واحداً وهو الزواج من ابن أختها سميحة،فالأم لم تتحكم في أي قرار من قرارات ابنها كإختيار تخصصه الدراسي وغيرها ولكنها إشتطرت عليه أن يتزوج بابن خالته وبدأت في التحرض على هذا الأمر من خلال مشاركتها في تربية سميحة وفي تشجيعها على الدراسة،ورضخ الابن لهذا الطلب ولكنه سرعان ما توجه لبعثة فنية إلى تورينتو وهناك ضربات فرشاته على حياته وعلى لوحاته صارت أكثر جرأة وحدة،ففي تورينتو ظهرت نرجسيته الفنية ورغبته في كسر قالب ما هو ممنوع وصار في غاية الأنانية تجاه أمه و زوجته،فلم تكن وحدها المسافات الجغرافية هي سبب البعد فكان هناك بعداً بين قلبه وبين قلب والدته وسميحه،فكانت بعثته نوع من الهجر لحياته السابقة وصار مهووساً بالثقافة الغربية من كتب وأعمال فنية وخاصة دانتي،ومع مرور سطور الأحداث سنجد إعترافات عديدة للفنان ومقارناته بين حياته وحياة المبدعين وأيضاً ما تقوله الكتب،هو كان يبرر لنفسه ما يفعله وينساق وراء عنجهيته وشاركته في هذه الفترة لويزا هذا الحال،كان عشقه لها غريباً من حيث تحدي العادات والتقاليد ولم يكن عشقاً مستقراً،فهي لم تتقبل أن يقرأ لها حكايا ألف ليلة وليلة بالعربية وفضلت النسخة المترجمة،هو تمنى أن تكون محبوبته مشغولة بها وبإهتماماته وأن تصير شهرزاده وهذا لم يكتمل مع لويزا،وإذا بالأيام تعيده إلى أمه وسميحة ولكننا نحس بأن هذه الفترة هي المتسببة في الدخان المتصاعد من فنه ومنحوتاته،هو يعترف أكثر ويظهر الجانب القاتم من تصرفاته أكثر،هو فبعد وصوله لأهله في مصر كان يظهر الود لسميحة كنوع من التعويض لها على غيابه السابق وجرب أن يحولها إلى شهرزاده ولكنها ذلك لم يجدي،وكانت أخطائه في حق سميحة تتصاعد ونلمح شعوره بشيء من الندم والتحسر في سواد لوحاته،وإذا بالفجيعة تصبح أكبر وأكبر فقد حصل معه وهز عالمه وهو وفاة ابنته أثناء الولادة،فهو كان يترقب تسمية هذه الابنة والعيش معها وإذا بهذا الحلم يضيع منه وينقلب لونه من وردي إلى أعتم درجات الألوان،فبات حزن هذه الخسارة مقارباً من سواد الأقمشة التي تتدثر بها والدته،وهنا نجد جزء الغربة كالغربة التي في (الكوميديا الإلهية) بسبب حضور الخطايا وأيضاً النزعات الفنية،هو يتساءل عن الحب والكره،وعن البعد والقرب،وعن المغفرة والتناسي،وعن حقوقه الفنية وجنون تمرده،وعن معاني كلمات التب التي قرأته ومدى مطابقتها لحياته،هو حائر توجه لأسرع منفى وجده بإرادته،هو أراد أن يتوه للوحاته وأعماله في الإسكندرية ولكن أطياف ماضيه كانت تسحبه لغربته وكانت تعاند أصابعه في الرسم والنحت،وإذا به يطلب إطالة فيما سماها بالإجازة وهي تفرغ للإبداع ولكن أنامله لم تكن له تنصاع حتى إقتحمت التغييرات السياسية والأحداث الوطنية مكوثه في معزلة وأيضاً مصادفته لحسنية،حسنية كانت كموجة بحر سرقت الانتباه من بقيت الأمواج لبساطتها وعفويتها وليس لعظمها،وإذا به يتصورها شهرزاد الجديدة عندما قالت له بأن لوحاته بها قصص ويعود لفنه من جديد،والقارئ يتحير إذا كان الفنان سيتغير أو سيكرر ما كان في مراحله السابقة وكأنه لا يتذكر!
لهذه الرواية جناح عززها كثيراً وهو الجناح التثقيفي والمعرفي بما ذكر من إشارات وأسماء لكتب أدبية،وهذا الإثراء يحسب للكاتب خاصة بأن (الكوميديا الإلهية) و(ألف ليلة وليلة) من الأعمال المعروفة خاصة الأخيرة في الثقافة العربية والغربية وكان هناك توافق مع الحالة النفسية والفنية للشخصية الرئيسية في العمل الأدبي والحالة الروحانية والمزاجية في العملين المختارين،والجناح الآخر هو إخراج أحداث الرواية وملامح الفنان من دائرة الظل بنسق متصاعد،وهذه النقلة من الظل إلى النور زادت من الإقبال على معرفة ما سيحدث وأيضاً الرغبة في تأثير كل جزئية من الكلمات والصور المكتوبة على الجزئية المجاورة لها.
وفي النهاية يا ترى كتاب (إجازة تفرغ) للروائي بدر الديب فيه حكاية فنان يشكوى نفسه أو يشكوى فنه أو تبادلت الشكاوى بينهما!