عن ذلك الرجل الموهوب المحترم المبجل ستيفان تروفيموفتش انما يبدأ دوستويفسكي بسرد بعض التفاصيل متخذا منها مدخلا للرواية الشاقة والطويلة والمليئة بالشخصيات والأحداث .
اعجوبة في الفن الروائي هو دوستويفسكي ، ورُبَ كاتب من كتاب الروايات يجد في التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي سادت روسيا القيصرية في ذلك الزمان ضالته المنشودة لابداع آثار أدبية خالدة ومتميزة .
ذاك المجتمع الروسي بتقاليده و تحولاته وتركيبته الذي لو أريد به أن يكون عالماً من العوالم الفانتازية لما جاء بهذا الشكل الملائم لانتاج الأدب الفخم الذي ما زلنا نستمتع به الى يومنا هذا .
اذن تضافرت الموهبة الروائية العظيمة التي يتمتع بها دوستويفسكي مع اعصار الظروف الاجتماعية والسياسية الذي كان يعصف بروسيا في ذلك الزمان ليكون الناتج عملاً روائيأ رهيباً .
لن أطيل الحديث عن الجوانب السيكلوجية او عن المقدرة على التحليل النفسي والنفاذ السكولوجي فالجميع يشهد لكاتبنا انه الأفضل عبر كل العصور في هذه الجوانب ولكني سأسلط الضوء على أمور أخرى برع فيها دوستويفسكي في هذه الرواية .
- الوصف التفصيلي لدى دوستيوفسكي لتعابير الوجوه وتغيرها حسب المواقف واعادته لوصف هذه الوجوه مع مرور السنين والتغير الذي يطرأ على ملامح شخصياته قل نظيره عند كتاب آخرين .
- عبقريته في تصنيف النماذج البشرية وتوقع سلوك كل شخصية حسب النموذج الخاص بها وتجسيده لطباع الشخصيات وتوظيفه للحالة النفسية في نقاشات عامة ( أثر الحالة النفسية على سلوك الشخصية ) .
- اسقاطاته التي لا حصر لها على الواقع الروسي دون تنفير القارئ من هذه الاسقاطات (قارئ ذلك الزمان وقراء أزمنة لاحقة ومجتمعات مختلفة ) .
- مقدرته على استغلال كل التفاصيل من نظرات وابتسامات وحتى التشنجات الجسدية في مساعدة القارئ على فهم المشاهد والمواقف ، وفي أغلب ظني انه لو قدر على سبيل الخيال للقارئ ان يكون حاضرا لأحد تلك المشاهد بشكل شخصي فلن يتمكن من الاحاطة بالاحداث بنفس الطريقة التي يحيط بها من خلال قرائته للمشهد عبر وصف دوستويفسكي المتخيل له .
- استباقه الدائم لاحداث الرواية وحرقه لها ليمكن القارئ من رصد ما يريد له ان يرصده بعيداً عن وقع المفاجآت وهذا لعمري ابداع روائي قل نظيره .
- في أغلب روايات دوستويفسكي هناك ذلك المشهد العاصف الذي يجتمع فيه أبطال العمل ليكون منطلقاً للمسارات والأحداث ويشكل ذلك المشهد على الأغلب ذروة الرواية ويكون قمة في الابداع الدرامي .
دعك من اسلوب دوستويفسكي فهو غني عن الاطراء والمديح ولنعود للحديث عن الرواية وظروفها المكانية والزمانية ففي تلك الحقبة من التاريخ الروسي الذي عايشها الكاتب كان قد تشكل المنعرج الهام في تاريخ العالم الحديث وهو بوادر ظهور الاشتراكية الأممية والتي وجدت في الامة الروسية فيما بعد الحاضنة المثلى لتلك الأفكار والمبادئ .
كانت تسود حالة من التوتر في كل طبقات المجتمع ، ولو اننا أخدنا بتحليل ذلك المجتمع لوجدنا قبل كل شئ حالة من القلق يسودها شعور بالخطر وفي تلك الأجواء المشحونة انما تظهر تلك الشياطين التي حدثنا عنها دوستويفسكي .
انه الصراع بين الركود والثورة ، بين الاستقرار والتغيير وهو صراع دائم ومستمر .
" انه لعصر عجيب ذلك العصر ! ... ان شيئاً جديدا يهم أن يولد ، شيئاً لا شبه بينه وبين الهدوء القديم ، شيئاً غريباً كل الغرابة ، ولكن الناس يستنشقونه في كل مكان " .
في مثل ذلك العصر لا عجب أن تلتهم الأفكار البشر ، وان يظهر أمثال بطرس ستيفانوفش ونيقولاي فيسفولوفتش وان يكونوا في قمة جنونهم وان يكون لهذا الجنون كل هذا العدد من الضحايا الأبرياء .
فمع هذا أيها السادة ، ألا ترون أن هذه الثرثرة الروسية القديمة ،الذكية هذا الذكاء ، الفتانة هذه الفتنة ما نزال نسمع صداها في آذاننا الى يومنا هذا في كثير من الاحيان .
ثم ماذا ؟
" ليس للجنون الانساني حدود " .