في الحارات الدمشقية والأزقّة المتلاصقة بذورٌ كامنة من الحميميّة والجمال ممّا لايعرفه السياسي ولايتنبّه إليه الأكاديمي ولاحتى عالم الإجتماع المحنّك، ولكن عين الأديب المخضرم لاتخطئه.
يضع الكاتب خيري الذهبي يده على مادةٍ وفيرة من حياة الأهالي في بلاد الشام خلال الإستعمار الفرنسي وماتلاه، ويبدو أن ليس في نيّته إرهاق القارئ بنقل الأحداث السياسية وانعكاسها على الناس؛ قدر مايهمّه عرض المفارقة التي تكمن في امتداد الزمن بين الماضي والحاضر.
في الرواية يعرض الماسيمو غسان وهو مندوب إحدى القنوات الفرنسية على المخرج السينمائي سليمان إخراج فيلم تسجيلي عن المدن التاريخية المنسيّة في شمال وشرق سورية. يوافق المخرج ويشد الرحال صوب دير الزور وهناك وفي أحد القصور القديمة المهجورة يرى لوحةً بديعةً لشادنٍ جريح ممهورةً بتوقيع الرسامة فاطمة، وللمفارقة العجيبة تكون هذه الفاطمة أم المخرج سليمان.
في ذلك القصر المتروك يطّلع المخرج على أرشيفٍ ثريٍّ عن حياة أمه الراحلة وعلاقتها بأبيه ويصدمه حجم المفارقة بين مايعرفه عن أمه الرسامة وحقيقتها المؤرشفة، ويعتريه لأجل ذلك رغباتٌ غامضة بين الانسحاب من الزمان والمكان والتاريخ صوناً لصورة الأم المثالية الراسخة في باله وبين الفضول المتنامي لمعرفة ماضي أسرته البعيد.
أمّا أمه فاطمة فقد خرجت في زمنٍ ولّى من بيتها الدمشقي، فلحقتها دوريةٌ فرنسيةٌ قوامها جنودٌ سنغاليون وصاروا يتبعونها وينادونها (فاتييما) وهم في هزلٍ بادٍ، فعادت إلى بيتها وقد جرحها هذا الموقف جُرحاً نغّاراً لم تشفَ منه، بل أقسمت ألا تخرج من دارها حتى يرحل الاستعمار عن الشام وهذا ماكان، فصارت أيقونةً للمقاومة ورمزاً للنضال وتناولتها الصحافة بإفراط حتى شبهتها بجان دارك! وهذا ما أزعج السلطات الفرنسية التي عملت على تشويه سمعتها ونفيها إلى دير الزور حيث مكثت هناك مرحلةً من عمرها أقامت خلالها معارض للرسم وتعلمت قيادة السيارة وصنعت من نفسها أسطورة المرأة المتحررة.
يصنع الكاتب خيري الذهبي من كل شخصياته الروائية أبطالاً، ويستخدم إطاراً زمنيّاً واسعاً لكنّه لايوظّفه في خدمه نظيره الدائم (المكان) رغم حضورهما وتأثيرهما البالغ في الرواية.
يستخدم خيري الذهبي في عمله هذا بنيةً سرديةً جميلةً وجديدةً -بالنسبة لي على الأقل- لم ألحظها في مئات الروايات التي سبق لي قراءتها، كما أنّ الكاتب لم يكرّر هذه البنية في أعماله الباقية؛ وهي اعتماده على تقديم الحكاية بصيغة السؤال، مرّةً خلال الحوار، ومرّةً خلال ما يطرحه وجدان الراوي، وهكذا يتعرّف القارئ على أحداث الرواية من خلال تتالي عشرات الأسئلة المزروعة في النص والتي تجاوز عددها حوالي 900 سؤال.
صدرت الرواية عن دار سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2020 وتقع في 222 صفحة من القطع المتوسط، وهي رواية حريٌّ بألا تفوت القارئ العربي لأنها من الأعمال التي تزيد تجربته جودةً ونفاسة.