مساء ذات يوم بعيدٍ غابرٍ، في حانة قذرة مليئة بأفواهٍ شرهة، لا تنضب شهوتها، قال طالب وهو يلعب البليارد،
لصديقه الضابط، وكان الجو آنذاك، أغنية خشنة، تصدر من حنجرة ثملة:
-هناك من جهة أولى امرأة عجوز شريرة خبيثة، مريضة، لا قيمة لها، ولا فائدة منها لأحد بل هي ضارة لجميع الناس!
وهناك من جهة ثانية قوى فتية شابة نضرة، تضيع لأنها محرومة من المساعدة وتُعدّ بالألوف. إن ثمة مئة أو ألف عمل
خير يمكن عمله بمال العجوز. إن ثمّة عشرات من الأسر يمكن إنقاذها بهذا المال من الفقر المدقع، والتحلل الأخلاقي،
والدمار، والفساد، ومستشفيات الأمراض التناسلية! فماذا لو قُتِلت هذه العجوز، وأخذ مالها ثم وُقِفَ على خدمة الإنسانية
بأسرها؟
واصل الطالب، والكلمات تصدر منه بحرارة:
-ألا تعتقد أن جريمة طفيفة كهذه، ستمحوها ألوف الأعمال الخيرة؟ إننا بقتل فرد واحد نستطيع أن ننقذ
حياة ألوف غيره من العفن والفساد والتحلل! وأي وزن في ميزان الحياة يمكن أن يكون لتلك العجوز الشقية المرابية؟
ظن الطالب أن لا ضير من إلقاء كلمات خطيرة كهذه وسط حانة مزدحمة بالناس، فهم سكارى على أيّة حال،
ولم يعلم أن أذنًا واعية كان تصغي في إنصات متصل، إلى كل كلمة خرجت من فمه، بحرص، واهتمام عارم.
إن هذا الشخص الذي كان يصغي لحديث الطالب مع صديقه، يُدعى راسكولنيكوف، وهو رجل يقف على حافة الهاوية،
ولا يحتاج لكي يقع فيها، عدا دفعة بسيطة تلقيه في غياهب ليس منها طلوع.
لقد كانت كلمات الطالب هذه، القطرة التي أفاضت الكأس. لقد كانت الدفعة البسيطة لكي يسقط
راسكولنيكوف من على حافة الهاوية.
عُرِفَ عن العجوز، أنها تقبل الرهن، مقابل أن تُدين المال لمن يريد، ولكنها تأكل الربا أضعافًا مضاعفة،
على الطريقة اليهودية. كانت نفس راسكولنيكوف، تراوده، بأفكار مشابهة، تمضي في النهاية إلى قتل
العجوز والاستيلاء على مالها، ولقد كان خارجا من عندها توًّا، قبل أن يسمع هذا الحديث المثير،
فأنظروا أيّ مصادفة هذه، تحدث لشخص بائس، يقع في قرارته ما يقع، من تخبطات نفسية، إثر ترك
الدراسة الجامعية لمصاريفها، ومكوثه في غرفة حقيرة، مظلمة، لا تنيرها شموع لأنه لا يملك ثمن شرائها،
وإذ كيف يجرؤ على التفكير في الحصول على رفاهية كهذه، وهو كذلك مطالب بدفع إيجارها، والذي تخلف
عن تسديده منذ أشهر عدّة!
وأحسب لو أن الشيطان كان يوسوس لراسكولنيكوف، بقتل العجوز المرابية، لما جاء بأحسن مما قاله الطالب
وهو يحدث صديقه الضابط، ولما زاد على كلماته حرفًا.
هذه نقطة جدلية مثيرة يطرحها الكاتب منذ بداية الرواية!
وعلى الرغم من كل هذا، فإن هنالك دافعًا آخر، كان وراء حمله على ارتكاب هذه الجريمة، وسنرمي إليه لاحقًا.
،
كشخص يقرأ لأول مرّة رواية طويلة لدستويفسكي، علي أن أقول: إن هذا الرجل يسهب حقًا في ذكر،
ووصف مشاعر الشخصيات وأحاسيسها، ومن ثمّ، تقلباتها الكثيرة خلال ما تواجهه من أحداث، ولا أخفيكم
أنّي استثقلت هذا الأمر كثيرا، وأخذت أمضي متبرمًا، في الرواية خصوصًا في البداية، ولكن لعل هذا ما يميز
دستويفسكي عن بقية الروائيين!: سبر أغوار النفس البشرية، وما يعتلج فيها من تقلبات، وهذه هي المرة
الأولى التي أقرأ فيها شيئا كهذا!
في رمضان المنصرم، كان لي -مصادفةً- شرف لقاء شخص صال وجال، في قراءة الأدب
تحدثنا عن العديد من الأشياء في الأدب، ولا تهم تفاصيلها الآن، إلا أنني قلت خلال حديثنا:
-ما رأيك في دستويفسكي؟ هل قرأت أعمالا له من قبل؟
قال هو: -قرأت رواية الأبله فقط.
-وكيف كانت؟ سألت أنا.
-رائعة! ولكن ...
ثم واصل:
-لا يعجبني دستويفسكي!
شهقت، استنكارًا لهذا القول، وكأني قرأت كل أعمال دستويفسكي، وأعلم كل صغيرة وكبيرة عنه،
والحقيقة أنني لم أقرأ قبل الجريمة والعقاب، سوى قصته القصيرة، "حلم رجل مضحك".
قلت: -وكيف ذلك؟
قال مجيبًا:
-رأيت كيف يقوم بتفصيل كثيف في سرد مشاعر الشخصيات،
حتى شعرت وكأنه يضعها في ملعقة، ويطعمني إيّاها.
وكان يقصد بقوله هذا، أن تفصيل دستويفسكي في السرد، يشبه إطعام الطفل الصغير بالملعقة،
لأنه لا يقدر أن يفعل هذا بنفسه، وكذلك هو الأمر على حد تعبيره عند دستويفسكي، فهو يصف مشاعر
الشخصيات بصورة مفصلة جدًا وكأننا لن نستطيع أن نفهم ما تعانيه لو استخدم عددا أقل من الكلمات،
وهو الأمر الذي يعني أن عليه أن يترك لنا مجالا صغيرًا نحن القرّاء، لنستدل على خواطر الشخصيات
بأنفسنا ... مجالًا صغيرًا فقط.
لم أفهم في ذلك الوقت ما كان يعنيه بكلماته هذه، ولا أعرف كيف هي رواية الأبله، ولكني الآن أدرك
الأمر بعض الشيء، وقد أتفق معه في بعض الأجزاء من هذه الرواية، غير أنني أرى أن بعضها كان لا
بد فيه من هذا الإسهاب الشديد، وإلا لما كان لتلك الأحداث أن تحمل ذلك الثقل وتكون بتلك الروعة.
،
قراءة الأسطر التي تسرد تجهيزات راسكولنيكوف لارتكاب الجريمة، لتبعث في النفس ترقّبا كبيرا،
يخفق القلب على إثره، في انتظار اللحظة الحاسمة التي سيلامس فيها فأس هذا الرجل البائس، رأس العجوز.
وإن كانت لحظات ما قبل الجريمة تثير الترقب، فإن ما بعدها يشد الأعصاب حقًا،
ويجعل النفس ترزح تحت وطأة ثقل كبير، حتى وجدت نفسي أقول، ليت الأمر ينقضي
في الصفحة التالية كي أرتاح.
،
ولكن على المرء أن لا يخطئ، فهذه ليست رواية تقرؤها لأن أحداثها مثيرة أو ما شابه
مثل الروايات المليئة بالتشويق والإثارة ... لا ... هي برأيي ليست من هذا النوع!
بل هي ذات مقصد مختلف، وإنك لتشعر أحيانا أن الرتم بطيء، لا سيما وأن الحوارات طويلة جدًا!
أجل، الحوارات ... يا لها من حوارات! إنها طويلة جدًا، وتمتد لصفحات وصفحات.
يا للهول! لا أعلم كيف تستطيع شخصيات الرواية أن تقف صامتة كل هذا الوقت،
لتستمع إلى محدثها الذي يقول، ويقول، ولا يبدو أنه سيتوقف عن القول في أي وقت قريب!
"ليته يطبق فمه، ويخرس."، هذا ما كنت أقوله، على أنّي لا أعمم هنا على جميع الحوارات،
بل التي أقصدها هي قلّة في الـحقيقة، فمعظـم الـحوارات جـميلة، ومعبـرة، رغم طولهـا،
والشخصيات دائما تقول: الشيطان يأخذك!
،
تنوع وجهات النظر، واختلاف الشخصيات، أضفى المزيد من الجمالية على الأحداث،
كـ: لوجين،و سفدريجابلوف، وآندريه سيميونوفتش، وغيرهم، وهذا الأخير خصوصًا، لديه
أفكار متطرفة تثير السخرية، وهذه إحداها:
"إنه ليخطر ببالي أحيانا، أنني إذا تزوجت زواجا حرا أو زواجا شرعيا، سيان، فلربما أجيء
لامرأتي بعشيق متى تأخرت هي عن اتخاذ عشيق من تلقاء نفسها. ولأقولن لها عندئذ:
يا صديقتي، أنا أحبك، ولكنني أريد بالإضافة إلى ذلك أن تحترمينني؛ إنني أحرص على هذا.
إليك عشيقًا!"
كيف يدل هذا على احترام الزوجة؟ ... لا أعلم! ولكني قرأت في الهوامش أن دستويفسكي
كان يسخر ممن يدعون إلى أمور مماثلة في الواقع، بشخصية اندريه سيميونوفتش.
،
إن كان هناك حدث جعلني أشعر بالأسى، فهو جنون البائسة كاترينا إيفانوفنا، بعد أن فقدت زوجها،
ومسكنها، وثم غادرت لتطرق باب العدل عند مسؤولٍ كبير ما، والذي طردها شرّ طردة، لتخرج بأطفالها
اليتامى في الشارع، تستجدي الناس.
إن هذا الحدث يحمل إسقاطًا واضحًا، والأمر مستمر حتى وقتنا الحاضر.
إنه لأمر مؤسف حقًا، أن نجد اننا نعايش في حاضرنا شيئا كهذا، فنحن تجد أن الضعيف يظلم
ولا يجد من ينصره، وحين يذهب لمقابلة شخص مسؤول بيده حلّ المشكلة، يلاقي مصيرا أشبه
بمصير كاترينا إيفانوفنا، ولكن المظلوم هذا لو كان شخصًا ذا مال ومنصب، لوجدنا أنه يُستقبل بأحرّ
العبارات ترحيبا، ولفُرشت الأرض زهورًا لكاترينا إيفانوفنا.
إنني إلى الآن، لا أفهم، لماذا يصعب علينا عندما نواجه مشكلة، أن نقابل المسؤولين الكبار،
الذين من المفترض أن عملهم هو حل المشاكل! إن لم يكونوا يخدمون الناس في مناصبهم،
فما الذي يفعلونه؟
،
وفي الجانب الأبرز من الرواية، لدينا نظرية راسكولنيكوف، حيث يظهر لاحقًا، أن مقالا كتبه منذ مدة،
قد نُشِرَ في إحدى المجلات، وفيه يقسم الناس إلى نوعين: عاديين، وخارقين.
العاديّون هم السواد الأعظم من الناس، الذين يعيشون وفق القوانين ويلتزمون بها.
في حين، الخارقون، هم أولئك الذين يكسرون القواعد، وأفعالهم تعتبر جرائم وفق
منظور القانون، رغم أنهم لا يرونها كذلك.
تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل، هذا هو منهاجهم.
"كلا، إن هؤلاء الرجال ليسوا من لحم ودم، بل إنهم من برونز"، فهم يقفزون فوق العقبات التي يفرضها المجتمع،
ليحققوا هدفهم الأسمى،
ولو عنى ذلك، سيرهم فوق أكوام من الجثث، إن لم يكن من الأمر بدّ.
وعندما أشرت في البداية، أن رسكولنيكوف كان يُدفع دفعًا نحو هاوية ارتكاب هذه الجريمة،
كانت هذه النظرية هي الدافع الآخر الذي ساقه لفعلها. إنه يريد أن يجرؤ، لأن أولئك الخارقين
جميعهم جرؤوا –وذكر نابليون كمثال-، وهو يرى نفسه منهم، إلا
أن وطأة القتل ظلت تلاحقه، وظل في نفسه يعيش جحيمًا.
"إن الفرق الوحيد بيني، وهؤلاء –الخارقين-، هو أنهم قد احتملوا ثقل أفعالهم، أما أنا فلم أقدر على الاحتمال."
إني أرى الأمر أشبه بثورة، فهي تأتي بأشياء جديدة تخالف العرف والتقاليد، ولا يقبلها الناس،
ويرفضونها أشد الرفض، ويرونها جرما شنيعا، ولكن ما إن تنجح، وتثبت وجهتها، حتى نراهم
يشيدون بها، رغم أنهم هم من كانوا يعارضونها في البداية.
إن جريمة راسكولنيكوف، كانت قتل مبدأً لأجل شيءٍ جديد أنفع، أكثر من كونها، قتل عجوزٍ لسرقة مالها،
ولو أنه نجح في الأمر، وتجاوز صدمة القتل، وبدأت ثمار فعلته تظهر للعيان، لنسي الجميع العجوز المقتولة،
ولمضت في طي النسيان، كصفحة حملتها الرياح؛ هذا هو شأن الثورة.
ولكن هل نقول، أن تحقيق مبادئ كهذه، يُجيز قتل الناس؟
بالطبع لا، فالعجوز لم تأتي بشيءٍ تستحق القتل لأجله، ولكني أرى أنها، وراسكولنيكوف
قد تطرّفا في ما كانا يعملانه؛ راسكولنيكوف، تطرّف لأنه أجاز لنفسه القتل، في مواطن لا تستحق القتل،
وقد كان بإمكانه اتباع طرق أخرى، والعجوز، إنما كان تطرفها، في عدم فعلها للخير، وهي تضيف فوق هذا
فعلها للشر بأكلها الربا.
عدم فعل المرء للخير، -عندما يكون بمقدوره فعله- هو كفعله للشر.
هل نقول عن السارق، الذي يسرق لأن الأبواب قد سُدّت في وجهه،
الذي يسرق لكي يمسك الرمق على نفسه وأهله لكي لا يموتوا جوعًا؛
هل نقول عن هذا أنّه سارق فعلًا ويجب أن يلقى عقابه؟
أنا أقول، لا، بل السارق هنا، هو الذي رأى حاجته، وكان بمقدوره مساعدته، ولكنه لم يفعل،
وإذ كيف لنا أن نلوم المسكين الذي سرق، وفقره أصبح يمسّ شيئًا جوهريًا، وهو بقاؤه حيًّا.
وقد أحسن الكاتب في تصوير المشهد، الذي علم فيه راسكولنيكوف، بأن العجوز ستكون وحدها
في شقتها، فنحن نراه وكأنه ينساق آليًا، من تلقائه، ويمضي في تجهيز أدوات الجريمة، رغم أنه نفسه
لم يعزم أمره على ارتكابها، ولكنه الشيء الجوهري، الذي تم مسّه، يقوده، ويحرّكه.