لا أعلم إن كانت هذه الرواية هي الأجمل بين روايات الكاتب أيمن العتوم، لكنني على يقين بأن هذه الرواية.....جميلة!!
لست محتاراً بالقدر الذي أنا فيه تائه ولا أعرف من أين أبدأ المراجعة! هذه الرواية جعلت شيئاً كان يربض هناك عميقاً جداً في داخلي ينهض ببطء لكن بثبات نافضاً غبار السنين والذكريات القاسية عن قلبي الذي كان بالكاد ينبض إلا ليوصل أسباب الحياة إلى ما تبقى من جسدي.
جعلتني "حديث الجنود" أشعر بالضآلة والخزي أمام ما تفعله الحكومات الشمولية بأي أحد يخالفها...حتى ولو كانوا أبناء المدن والقرى والصحارى التي تحمل على عاتقها مسؤولية إحيائها، لا قتلها وتخضيبها بالدم!!
العتوم في هذه الرواية المتخمة بالشجن؛ وعبر شخصية "ورد"؛ نكأ جرحاً ما كان ليندمل عند أحياء الضمائر، ومسح طبقة الغبار السوداء عن تاريخ شوارع إربد وساحات اليرموك الجامعة، وكشف بأسلوبه الشعري أن في التاريخ معركتان اسمهما اليرموك.... الأولى جلبت العزة والكرامة للأرض التي كانت خانعة رازحة تحت نير الظلم والظلام، والثانية أتت بالخزي والعار من الباب الخلفي للتاريخ!!
لغة العتوم الشعرية لم تختفِ ولم تختلف عن عادتها، فكاتبنا اليوم هو أولاً وأخيراً....شاعر!
ربما تختلف "حديث الجنود" عن "يا صاحبي السجن" بخلوّها من الملل تقريباً إلا في بعض المونولوجات الداخلية كما عودنا الكاتب الشاعر!! وذلك - برأيي البسيط- لأنها ليست عن تجربة الشاعر الشخصية؛ كما في الرواية الأخيرة والتي يتحدّث فيها عن تجربة سجنه تسعة شهور؛ ولكنها تجربة الآلاف من جيل كان يزخر بالثقافة والوعي اللذان قوبلا بالرصاص والهراوات، ولأنها تجربة مجموعة صغيرة من "القادة الصغار" الذين تحولوا إلى صفحة عظيمة من سجل تاريخ الأردن، ولأنها حدثت في مدّة قصيرة....ولكنّها لم تنتهِ إلى اليوم!!!
نعيمة....
قصة هذه المرأة العجوز كانت من أجمل الشذرات في الرواية... كانت الهدوء الحزين في خضمّ الأمواج المتلاطمة حول شخوص الرواية، كانت الموضع الذي يشعرنا بالدفء عندما ينام أحد الشباب على أكياس الإسمنت في الليل البارد، كانت تشعرنا بالطمأنينة عندما يُطارد الثوّار في الشوارع والأزقّة والحارات، وكانت تشعرنا بالحاجة إلى البكاء لنتذكّر أننا بشرٌ من دمٍ ولحمٍ وروح!!
ربما بالغ الكاتب في بعض المشاهد قليلاً، كالمشهد الذي يظهر فيه ورد في إحدى ساحات اليرموك ليلاً والريح تعصف به كأنّها ذئاب تناهشه، فيرفع ذراعيه داعياً "العالي" فلا تستجيب له السماء لأنّه من الخاطئين! فيركع وردٌ داعياً العالي صارخاً: "طهّرني"!!
هذا المشهد ببساطة لا داعي له من وجهة نظري.
وربما كون "ورد" -وهو الشخصية الرئيسة في الرواية- من الإخوان المسلمين؛ جعل الرواية تميل قليلاً إلى الترويج لهم ولدورهم الكبير في الحادثة التاريخية، كما سلّطت الضوء على نفوذهم الكبير جداً في مرافق الدولة.
الكاتب لم يبالغ نهائياً في وصف مشاهد الضرب والركل والرفس والشتم والإعتقال....لأنه هذا - وبكل بساطة- ما تفعله الحكومات القمعية وأجهزتها، ولأن هذا ما حصل فعلاً، ولأن الناس كانوا على المجزرة شهوداً..!!
الشهداء...
لا أعرفهم....لم أرهمْ....لكنني شعرت أنني فقدت أخاً أو أختاً باستشهادهم! لقد قتلوا على اليد التي من الطبيعي أن تحميهم وتشعرهم بالأمن والأمان!!
رحمهم الله...
ورد الثائر...ثم ورد المهاجر....ثم ورد العادي جدّاً؛ نهاية مؤلمة لشخص ربما كان الأجدر أن يكون قائداً أو زعيماً....ليست النهاية المثلى لمن هو في مكانه!!
أنا عن نفسي قُدْتُ اعتصاماً استمر لثلاثة شهور إلا أياماً ثلاثة مع ثلاثة آخرين من أصدقائي، وأعرف معنى الثبات والصبر، وأعرف معنى الخيانة والجبن، كما صرت أميز الجواسيس وعيون الحكومة ومخابراتها من نظرة واحدة! بتُّ أعرف معنى النصر الحقيقي، لا النصر الذي تروّج له الأبواق الإعلامية الصدئة!
وفي روايتنا....أين النصر في أن تقتل وتسجن وتضرب طلاباً للعلم بكل عنجهيّة وجهل وصفاقة، فقط إرضاءً لمسؤولين اليوم على كراسيهم وغداً عاطلين في بيوتهم ينتظرون الموت، فلو دامت المناصب لمن قبلهم لما وصلت إليهم!
أين هو وزير الداخلية، ذلك المتصلّب؟ أين هو المحافظ؟ أين رئيس الجامعة المغرور؟!!
في بلداننا العربية كل شيء عكس المنطق يحدث ببساطة.... فرئيس الجامعة "عدنان بدران" الذي تسببت عنجهيته في تشويه صورة العلم والأمن في عام ١٩٨٦، صار بعدها بعقدين من الزمن رئيساً لوزراء الأردن!!
ولكن وصفت حكومته بأنّها الأضعف على مرّ تاريخ الأردن!! في وقت كان أخوه "مضر بدران" رئيساً للوزراء حتى العام ١٩٨٤!:وابنة أخيه مضر..."ريم بدران" أصبحت وزيرة لاحقاً....!!
مدير الأمن العام وقتها "عبد السلام المجالي" أصبح رئيساً للوزراء وهو من وقّعت حكومته اتفاقية الذل والهوان مع الصهاينة!! وأصبح أخوه "عبد الهادي المجالي" رئيساً لمجلس النواب الأردني لسنوات طويلة مملّة!!
قائد لواء البادية وقتها "معروف البخيت" أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء....وسقط هو وحكومته في ما يسمّى "قضيّة كازينو البحر الميت"!!!
رئيس الوزراء وقتها "زيد سمير الرفاعي" عاد ليصبح رئيساً للوزراء مرة أخرى في العام ١٩٨٩....وسقطت حكومته في الهبّة الشعبية على الغلاء والتجويع والقمع والأحكام العرفية أو ما يسمّى بـ"هبّة نيسان"!! بعدها بسنوات وفي بداية الألفية الجديدة؛ أصبح ابنه "سمير زيد الرفاعي" رئيساً للوزراء...!! وسقطت حكومته بسبب الضغط الشعبي أيضاً كحال حكومة أبيه عام ١٩٨٩ ولنفس الأسباب!!!!
ومن قبلهما كان الجد "سمير الرفاعي" -والد زيد الرفاعي- رئيساً للوزراء أيضاً....!!
هل اكتفيتم؟؟....إذن سأزيدكم من الشعر بيتاً: صهر زيد الرفاعي والد زوجته، وجد سمير الرفاعي الإبن، "بهجت التلهوني" كان أيضاً رئيساً للوزراء!!!!!
ما هذا؟ ما هذه السخرية؟!!
ما هذا القرف؟ ما هذا الجنون؟؟
هل لبلاد العرب ذاكرة الذباب؟ لكن صدقوني هذا كان مصداقاً لقوله جلّ في علاه: "يمدّهم في طغيانهم يعمهون"، طبقاً لما رويته أعلاه!
الرحمة للشهداء...الرحمة لناصر ونعيمة.... والعزة للوطن
وأعوذ بالله من القمع والقامعين....