الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب يصنعون الحرب.
هذا ما جاء على لسان الشخصية الرئيسية لدى “عتيق رحيمي”. شخصيةٌ بلا اسم ولا هوية، إنها عبارة عن كائن يمتلك الذكريات والرغبات، فيفضحُ السرَّ الأعظم في بلادٍ أنهكتها الحروب والذكورة المتديّنة. شخصيةٌ اختزلت تاريخاً طويلاً من معاناة الإنسان والمرأة في عصر الجهل والحرب. أمام مونولوجٍ طويل هذياني، يُدخلنا “رحيمي” مباشرةً إلى عالم المرأة المسلوبة بمعايير التعصّب والعشائرية والمذهبية التي أودت بلادَ أفغانستان إلى حروبٍ لا تنتهي، حروب تُصبح فيها المرأة هي لسان حال الواقع والحلم مجتمعين.
تسردُ الشخصية على زوجها الذي أصابتهُ رصاصة في عنقه فأضحى أسير غيبوبةٍ طويلةٍ لا يُعرفُ مداها، كل ما يختلج في نفسها وهواجسها ومعاناتها، داخل مجتمع أحبطتهُ قيود التعصّب والقوانين المُشرّعة باسم الله، فأضحت بطلة رحيمي، الراوية التي شرّحت مفاهيم البؤس عندما يُصبح الإنسان أسيراً للعنف والدم والموت.
منذ البداية يُعلّقنا “رحيمي” بمجابهة واعية مع الطبيعة الفكريّة لذلك المجتمع الذي يتحكّم بمصائر الناس، عندما يبدأ الملا خطبتهُ :
اليوم هو يومٌ دامٍ، لأنه في يوم ثلاثاء نزفت حواء دماً نجساً للمرة الأولى، وفيه قتلَ أحدُ ابني آدم أخاه، وقُتِل غريغوار، وزكريا، ويحيى – عليهم السلام – وكذلك سحرة فرعون، وآسيا بنت مزاحم، زوجة فرعون، وعجل بني اسرائيل.
منذ الصفحات الأولى، يرتكز فعل القراءة مع تابوهاتٍ مؤلمة وأسطورية، إننا أمام معرفة جاهلة لمجتمع محكومٍ باللامنطقية. الملّا، وصي الله على الأرض، يقول، فيصدقه الناس. يصدمنا رحيمي بعقليّة الجهل التي تتحكم بالبشر، تلك العقلية التي تقولب الذهن والرؤى بما يناسب الذكورة والشرقية بمعاييرها الدينية. من هناك تنطلق بطلة رحيمي لتسرد باللاوعي كل أسرارها على زوجها الجثّة الجامدة، وكما اسمته بحجر صبرها. إنها حانقة، تريد السبّ والشتم، لكن هناك ما يمنعها. إنها في شكل الهذيان. غاضبة من مصيرها وواقعها وحياتها. تلوم زوجها البطل في نظر مجتمعه دون الوقوف عند كيانها، فالمرأة في مجتمع الحرب الدينية، هي كائن منحط.
تدريجياً ينطلق لسانها، لتبدأ مسيرةً سينمائية في السرد الأدبي، وميلودراما مسرحية في الحكاية المنطوقة بلسان اللاوعي، فتُحدّثُ زوجها عن شهواتها وليلة زفافها الأولى وبكارتها، وشبقها، وتتكلم عن البطولات التي يمارسها الرجال في الحروب التي تؤدي غايةً واحدة، وهي شعور الذكور بأنهم أبطال، متناسين نسائهم :
أنتم الرجال عندما تملكون السلاح تنسون نساءكم.
المرأة حاقدة، وفي مجتمع يحكمه التخلف والدين والحرب مثل أفغانستان، لا قيمة للمرأة سوى بقوطها، إنها قطعة لحمٍ لإفراغ شهوة الأبطال، أبطال الحروب.
في عالم رحيمي، كل شيء بليد، الحركة سينمائية رمادية وباهتة، الشخوص تعبر بسرعةٍ وتنتهي، عمة البطلة العاهرة العاقر، الملا، المقاتل المُتأتئ، القيادي الذي اتخذ المُتأتئ صبياً له لنكحه، اللصوص. في ذلك المكان البارد ذو البعد الواحد للسرد الحكائي، تمر الشخوص سريعةً ليُثبت لنا رحيمي واقع أفغانستان، وفي كل ذلك هناك ضحية واحدة، هي المرأة التي تعلم كل أسرار البلاد والعباد، لكنها لا تستطيع قول شيء لأنّ الموت مصير الذين يعرفون الحقيقة.
تصمتْ، لكن صمتها لا يستمر، غيبوبة زوجها جعلت منها امرأة متحدثة، خلقت منها شهرزاد أفغانستان، خلف حكاياتها وأسرارها التي ركّز فيها رحيمي على هواجس المرأة الشبقية ومعاناتها الروحية في مجتمع ينتهكها على المستويين، تبان لنا ببُعدين مكشوفين، الأول هو ما تعانيه المرأة بشكل مباشر من هواجس وأحلام تتمناها، والثاني هو ما يرتكز خلف تلك الهواجس من حقيقة البلاد والعقول، صورة الحقيقة لأفغانستان المُسلمة.
تُشرّحُ بطلة رحيمي الصورة الحقيقية للذكورة المختبئة بستار الدين، فكلما بحث الإنسان عن صورةً للشرف والطهارة والعذرية، يكون الخوف قد تملّكه أكثر. أبطال الحرب يريدون امرأة عذرية، ليُثبتوا أنهم أبطال حرب وأبطالُ جسد.
عندما تضاجعون مومساً لا تمتلكون جسدها. أنتم في وضع تبادل. أنتم تعطونها مالاً، وهي تعطيكم لذة. ويمكنني أن أقول لك إنها هي التي تُسيطر عليكم في غالب الأحيان، هي التي تضاجعكم. إذاً، اغتصاب مومس ليس اغتصاباً. لكن انتهاك بكارة فتاة يعني اغتصاب شرف امرأة ! تلك هي عقيدتكم.
شهرزاد أفغانستان، لا تتوقف فقط عند السرد، بل تسخر من كل الواقع ومن الصورة التي يختبئ خلفها المُقاتلون. تسخر من الدم والشرف والقسوة، تسخر من البطولة والأبطال.
والدك كان يحبني لأنه كان يحبك، أنت. كان فخوراً بك عندما كنت تقاتل من أجل الحرية. وكان يحدثني بذلك. بعد التحرير فقط بدأ يكرهك، أنت، ويكره أخوتك أيضاً، عندما أصبحتم لا تقاتلون إلا من أجل السلطة.
رحيمي ببطلته، يخلق عالماً من القسوة والألم، يسرد علينا حكاية وطن وحرية بلسان امرأة، يقذف في وجوهنا حقيقة الحروب التي تحوّل عقولنا ورؤانا وتجعلنا كائنات أكثر دونية وحقارةً وسفالةً بالوعي مختبئين خلف شعارات كبرى لكنها شعارات تزيد التخلف والموت : من لا يعرف كيف يمارس الحب يصنع الحرب.
شهرزاد أفغانستان، هي صورة تاريخ الحروب، هي الضوء المنسدل من ثقب الجدار إلى داخل العتمة لتفسّر كل تخلّف الأبطال الذين يُدمّرون أنفسهم قبل الآخرين.