الميزة الوحيدة فى هذه الرواية أنها وضعت خاتمة "closure" لتجربتى فى القراءة لشيرين هنائى، تجربة كانت الحسنة الوحيدة فيها هى عملها الأول "نيكروفيليا" التى إستشعرت فيها –خاطئا كما إتضح لاحقا!- مولد كاتبة مختلفة و مميزة فى إنتقاء أفكارها و تناولها، حتى و إن كان يعوزها بعض مقومات الكتابة كالتمكن من اللغة و الأسلوب، إلا أن أملى كان أن هذا مما يمكن أن يكتسب بالوقت و الخبرة –وهو ما إتضح خطأه أيضا!- خاصة مع صغر سنها الذى كان أحد عوامل تحمسى لها كوننا من نفس الجيل، بالإضافة لإنتماء روايتها لنوعية الأدب النفسى التى تستهوينى، كما أن صغر حجم الرواية –التى لم تتجاوز المئة صفحة- كانت إحدى المزايا التى جعلتها خفيفة على نفسى ودعتنى للتجاوز عن بعض ما كان بها من عيوب بإعتبارها عملا أول مبشرا لصاحبتها.
التجربة الثانية كانت مع رواية "صندوق الدمى" و التى كتبت رأيى عنها فى وقتها أنها " رواية مخيبة للامال جدا, و خاصة أنها تأتى بعد عمل أول فى منتهى التميز مثل نيكروفيليا, و رغم أن البداية كانت مشوقة جدا الا أن النصف الثانى منها اصابه الترهل بشدة, و خاصة مع الافراط فى استخدام الرموز لدرجة المباشرة الفجة, مع الاغراق فى نظرية المؤامرة حتى الثمالة, مما ذكرنى بسلسلة (القادمون) الوثائقية, التى شدتنى أيضا فى البداية و لكن عابها أيضا الاستغراق فى نظرية المؤامرة أكثر من اللازم.
الأسلوب فى نيكروفيليا كان أفضل كثيرا للأسف و الحبكة كانت أكثر احكاما, و ربما كان السبب فى طول هذه الرواية مقارنة بالأولى, حيث أننى كنت أشعر بالخيوط تفلت من الكاتبة شيئا فشيئا, و أحسست بازدحام الأفكار فى رأسها, والتى تبدت فى ارائها الشخصية الكثيرة التى كانت تقحمها فى الرواية على لسان الشخصيات, و خاصة ما بتعلق منها بالثورة و كونها مؤامرة ماسونية !!
فى النهاية أتمنى أن تتدارك الكاتبة هذه الأخطاء فى أعمالها القادمة لتقدم لنا أعمال فى مستوى نيكروفيليا لا فى مستوى صندوق الدمى "
إلا أن التجربة الثالثة و الأخيرة لى مع روايتها الجديدة "طغراء" أكدت لى أن "نيكروفيليا" كانت إستثناء، و أن الكاتبة مصرة على الإستمرار فى نفس النهج السخيف الذى بدأته فى "صندوق الدمى"، ألا وهو كتابة روايات شديدة الطول –الرواية 472 صفحة- لتقدم فيها تحليلاتها السياسية الساذجة و المفرطة البديهية، مع محاولة إصطناع أسلوب أدبى -لا تمتلكه للأسف- لحشو هذه الصفحات!
و للتدليل على ما سبق سأضطر لحرق تفاصيل الرواية، فمن كان راغبا فى إكتشافها بنفسه فليكتفى بهذا القدر.
القسم الأول يدور حول "خالد تحية" خريج الإعلام الذى يعمل معدا لبرنامج مسابقات تافه على قناة مشبوهة، شخص مستسلم تماما يتمحور عالمه حول أمه المريضة التى يعيش معها، و كيفية تدبير مصاريف علاجها و إكمال الشهر بمرتبه الضئيل، حتى تدفعه الظروف للمرور بجوار ميدان التحرير إبان إندلاع مظاهرات ثورة 25 يناير، و يشهد واقعة تحرش بخلود –صاحبة مدونة شهيرة بين الشباب وإحدى منظمى التظاهرات- فيضطر للتدخل الذى يؤدى إلى إنقاذ خلود و إصابته و تمزق ملابسه، قبل أن ينصرف مسرعا ليلحق بأمه التى تدهورت حالتها الصحية فدخلت فى غيبوبة مجهولة الأسباب.
حتى هنا و الأمر عادى لا غرابة فيه، الغرابة تبدأ عندما ينتشر الفيديو الذى يقوم فيه خالد بإنقاذ خلود من التحرش –عن طريق مدونتها- ليظهر فيه أن خالد "بينور فى الضلمة" –ولا مؤاخذة!- فمن بين تمزقات ملابسه ينبعث النور من جروحه!
ينتشر الفيديو بين الشباب كالنار فى الهشيم، ليصير خالد رمزا و أيقونة للثورة بفضله، فى الوقت الذى يحتار فيه خالد فى فهم هذه الظاهرة الجسدية التى تحدث له، حيث تتحول الجروح على ظهره إلى وشوم تشكل كلمات بخط الطغراء العثمانى ينبعث منها النور -و الصديد فى ذات الوقت!- و هذه الكلمات تتغير كل فترة بلا سبب مفهوم، كما يكتشف فى نفسه القدرة على قراءة الأفكار أحيانا –على مزاج المؤلفة!- إلا أنه ينشغل بحالة أمه الصحية التى يكتشف أنها كانت فأر تجارب بإرادتها لأحد الأطباء الذى قام بتجربة دواء جديد لإحدى الشركات عليها مقابل مبلغ من المال، مما كان السبب فى تدور حالتها و دخولها فى الغيبوبة.
فى هذا الوقت تظهر شخصية جديدة هى "السيد" وهو "كيان" غامض يملك إمبراطورية إقتصادية يديرها من قصره على هضبة المقطم، يقرر هذا السيد إستغلال خالد و شعبيته الناتجة عن دوره المزعوم فى الثورة –بعد نجاحها المتوهم!- ليحوله إلى مذيع يقدم برنامجا على قناة يقوم بتأسيسها لخدمة مصالحه الغامضة، و فى سبيل هذا ينتقل خالد للإقامة فى مقر القناة الملحق بقصر المقطم، و يخضع لبرنامج تدريبى نفسى و جسدى شامل، ينسى خلاله كل ما يتعلق بأمه و غيبوبتها، و الكتابة الغريبة على ظهره التى تظهر كل فترة، و قدرته على قراءة الأفكار التى يفقدها مع السيد و حاشيته فقط -لأن المولفة عايزه كده!- و ينغمس تماما فى حياته الجديدة بلا سؤال عن الهدف من كل ذلك!
فى القسم الثانى تنتقل بنا الكاتبة إلى سنة 1498 ميلادية، لنتعرف على بداية "السيد" هذا الكيان الغامض العابر للعصور، من إختياره و تربيته على يد "سيدة الجبل" التى تظهر و تختفى فى القصة بلا أى تفسير لكنهها من أى نوع، إلى وقوعه فى أسر بعض التجار المسلمين الذين كان يحاول سرقتهم، إلى تعليمه على يد المعالج اليهودى القاطن فوق جبل الطور الذى أنقذه من الموت، إلى وصوله إلى مصر ليصير مملوكا فى زمرة حاكمها علاء الدين، و يتحول إلى صلاح الدولة النجمى و يتم تدريبه ليصير مقاتلا لا يشق له غبار، و يقربه الحاكم له رغم -فساد أخلاقه و رعونته- لإفتقاده لولد من صلبه، و يهنأ له العيش إلا أن ما يؤرقه هو حبه لطفلة تدعى كورتشينا تعاطفت معه يوما فى بلاده الأصلية، حب من لقاء واحد دفعه لقطع المسافات الطوال-برفقة صاحبيه المملوكين الشاذين!- للقائها ثم إختطافها من بيتها و قتل زوجها –وأكل قلبه!- و العودة بها معه إلى مصر ليتزوجها بعدما أجهض جنينها!
و فى هذه الأثناء و مع تدهور الأحوال المعيشية فى مصر و قرب دخول العثمانيين لها، يموت الحاكم علاء الدين بمرضه و حسرته –فى مشهد شديد الإفتعال و الإبتذال معا!- ليتولى بعده السلطان قنصوة الغوري، و تستمر رحلة صعود صلاح الدولة و يتزوج ثانية من زينب أرملة والده الروحى علاء الدين، حتى تأتى موقعة مرج دابق مع العثمانيين التى إنهزم فيها فيها المماليك و مات السلطان قنصوة الغورى، و مات فيها أيضا صلاح الدولة و فصل رأسه عن جسده، قبل أن يصحو مرة أخرى –آه و الله زى ما بقولكم كده!- بعد أن تمكن رأسه المفصول من "أكل" جسد السلطان قنصوة الغورى –الذى إتضح أنه كان لازال حيا بعد ما مات فى الجملة السابقة!- فى مشهد شديد العبثية –التى هى سمة الرواية كلها!- ثم يرجع إلى مصر التى عاث العثمانيين فيها فسادا و قتلا، ليكتشف مقتل كوريتشينا على يد العثمانيين بعد الوشاية بها من قبل ضرتها زينب -إلا أن خادمتها مسكة أنقذت وليدها الذى لم يعلم به صلاح الدولة– فينتقم من زينب ويقتلها قتلة بشعة بمساعدة دبه الخاص –نسيت أن أخبركم أنه يربى دبا متوحشا!- و يسترد صلاح الدولة عافيته بعد "أكل" الكثير من الجوارى و العثمانيين –هل مللتم من علامات التعجب؟!- لينتهى هذا القسم بالمصريين و قد إستسلموا لسلطة العثمانيين، و بولد صلاح الدولة الذى هربت به مسكة إلى النوبة و فد كبر و صار رجلا و تزوج و خلف صبيان و بنات و عاشوا فى نبات و نبات!!
القسم الأخير هو ذروة هذا الفيلم الهندى السخيف –المسمى تجاوزا رواية!- حيث نعود للعصر الحاضر لنجد خالد تحية و قد تحول إلى الإعلامى الأول فى مصر، بمساعدة خلود –صاحبة المدونة الثورية التى أنقذها من التحرش- قبل أن يستيقظ ضميرها و تترك القناة، و بعدما إستغل قدرته على قراءة الأفكار –التى تظهر وقتما تشاء المؤلفة!- للإقتراب من الناس و توجيههم كما يشاء "السيد" مالك القناة، قبل أن يفيض الكيل بالناس بسبب سوء الأحوال المعيشية التى يحاول تزييفها لهم خالد، فيكادون يفتكون به أثناء تناوله العشاء مع نورين خطيبته –مساعدة "السيد"- و صديقه الطيب الدكتور إمام –الذى يلعب فى الرواية دور ضمير خالد- إلا أن خالد يتصدى لهم بقدراته الخارقة، وأثناء المعركة تتمزق ملابسه و ينبعث من جسده النور –مرة أخرى!- لينقسم الناس بين من يعتيرونه ملاكا يستحق التقديس و من يعتبرونه شيطانا يستحق الرجم، لينتهى به الحال مصابا فى حالة خطرة، و يتم نقله لمستشفى –هى نفسها التى ترقد بها والدته فى الغيبوبة من أول الرواية!- و يتضح أن مالك هذه المستشفى و شركة الأدوية التى تسبب دواؤها فى غيبوبة أمه و الطبيب الذى سيجرى له العملية هو صلاح –صلاح مين؟صلاح الدولة النجمى طبعا!- و هو نفسه السيد مالك القنوات الفضائية –الدنيا دى صغيرة قوى!- الذى جاب العالم على مدار القرون السابقة، من أمريكا إلى أرمينيا رجوعا إلى مصر فى النهاية، و خالد هو حفيده من نسل الأخت كورتشينا الذى يرغب فى الإستيلاء على روحه –لماذا؟ لأن المؤلفة عايزه كده طبعا!- و تدور بينهم معركة أخيرة -على خلفية بوادر حرب أهلية و جفاف نهر النيل و مجاعة وبلاوى أخرى من هذا القبيل!- يتخللها الكثير من الهراء المنمق الذى تصيغه المؤلفة على أنه خلاصة الحكمة البشرية، على شاكلة "المصريين شعب عبيد لازم لهم سيد و لو ما لاقوش واحد هيخترعوه" و "العثمانيين زيهم زى المماليك كلهم بيتكلموا باسم الدين و هما عاوزين مصلحتهم بس" و "مصر هبة النيل!" و "الإعلام بيحرك الناس" إلى آخر هذا الكلام المحفوظ المستهلك الذى تأخذنا المؤلفة فى رحلة عبر 472 صفحة من الهراء و التخاريف لتصبه على أدمغتنا كأنها جابت الديب من ديله!
لتنتهى هذه الملحمة غير مأسوف عليها بموت خالد و السيد –ولا صلاح و لا أيا كان مش مهم أهو غار فى داهية!- و أم خالد أيضا فوق البيعة –الست دى إتعذبت معانا كتير من أول الرواية!- لتنزل معها كلمة النهاية على تجربتى القصيرة –و المريرة!- فى القراءة لشيربن هنائى.
ملاحظات :
-هناك إتجاه سىء للغاية للروائيين المصريين فى دبج الروايات شديدة الطول حتى لو كانت الأفكار لا تحتمل، كما لو كان هذا معيارا للجودة و التمكن –و هو نقيضه فى الحقيقه- أو كأن دور النشر تحاسبهم بالكيلو!
-هناك إتجاه سىء أيضا للروائيين المصريين -الشباب بالذات- للتوسع الشديد فى إستخدام العامية المفرطة فى كتاباتهم –الحوار هنا كله بالعامية- كأن هذا هو معيار الواقعية، و أرى فيه إستسهالا و إغراقا فى المحلية و القطرية التى كنت أعيبها على كتاب عرب آخرين كنت أواجه صعوبة فى فهم كتاباتهم باللهجات المحلية.
-الأسلوب ركيك جدا حتى مع محاولة إصطناع البلاغة فى تعبيرات من قبيل "تحت غمامة معلقة من دخان عشرات السجائر المحترقة و المتكومة فوق بعضها البعض كجثث اليهود بعد المحرقة المزعومة"! مما يجعل قراءة 472 صفحة نوعا من العذاب !
-ضعف اللغة عند "الأديبة" الذى يتبدى فى تعبيرات من قبيل "تبصق مسكة فى صدرها" بدلا من إستخدام الكلمة المناسبة و هى "تتفل" مثلا مما يثير الشفقة حقا!
-فكرة الرواية هنا على عبثيتها و غير منطقيتها إلا أيضا ليست أصيلة، ففكرة الكيان الشرير العابر للعصور إستخدمها من قبل تامر إبراهيم فى ثنائيته "صانع الظلام" و "الليلة الثاثة و العشرون" أيضا بلا تفسير منطقى لكنهه، و إن كنت أزعم أن إستخدام تامر كان أفضل فهو على الأقل لم يحاول أن يحمل أدبه الماورائى برسائل سياسية و فلسفية "عميقة" كما حاولت الكاتبة هنا!
-عذرا على طول المراجعة و على كثرة إستخدام علامات التعجب، و لكنها كانت على قدر إستيائى من الرواية و تعجبى من الإشادة الرهيبة التى حظيت بها من جيل الشباب و حديثى العهد بالقراءة بالذات، و هو الملاحظ أيضا بالنسبة لرواية 1919 لأحمد مراد.
و ختاما: " فى بلد العميان، يصير الأعور ملكا! "