قصة "حي بن يقظان" تمثل اسم من اسماء التي عرفها معظمنا من الطفولة و لكن لم تكن اكثر من فكرة عن انها رمز لكيف يتوصل الانسان بالتفكر الى وجود الله، اعلم مدى صعوبتها و لكن كانت اولى من الكثير مما درسناه من قصص في فترة المدرسة ، حيث انها قصة لا تعطي من المتعة الا ما هو في تطور الاحداث -خاصة في نسخة ابن طفيل- و كيف كان تطور الفكر الانساني و لكن تحتاج لمن يوليها اهمية في الشرح و التحليل و فتح مغلقها و فك رموز دلالاتها و من هنا ستنبع متعة هذا العمل الرائع.
هذه القصة تمثل لنا اهمية كبيرة على مستوى انها ارث ادبي و فلسفي و علامة بارزة فيه من عدة وجوه:
اولها: انها تراث موروث من قصص ما قبل الاسلام و هنا كانت بصمة الفلسفة الاسلامية في اعادة الكتابة بما يتوافق معها، و ان يدل هذا فانه يدل على ان العلماء المسلمين استفادوا مما سبقهم و ايضا الاضافة عليها ة تعديلها لدحض او لتوضيح افكار كانت سابقة عليهم.
ثانيا: كتبت هذه القصة على يد اربعة من نوابغ العلم الاسلامي: ابن سينا، ابن طفيل، السهروردي و ابن النفيس، و هذه لها دلالات و اشارات الى انها تناول لموضوع او قضية من عدة وجوه و زوايا و هذا ما يمثل الراي و الراي الاخر و لولا اختلاف وجهات النظر لفقدت الحياة معناها العميق. و كذلك يشكل هذا التنوع في التطرق للموضوع نفسه فكرة التاثر الثقافة الاسلامية بالثقافات السابقة و كذلك تاثر علماء المسلمين في بعضهم على مدى مر العصور و هذا دليل على ان تراثنا الاسلامي تراث متصل و اللاحق تاثر بسابقه و اكمل له جانبا كان غامضا و اثر في لاحقه بان كان له نقطة بداية لتطور لاحق.
ثالثا: مع اختلاف طرق الكتابة الا ان النتيجة في التفكر كانت واحدة اذا لابد من وجود الخالق لهذا الكون و لا يتاتى التعرف عليه الا بهجر المحسوس و الالتصاق بالروح و هي ارقى و اشرف الانتقالات في الفلسفة الا وهو التبرؤ من الجسد الفاني و الاهتمام بالروح.
رابعا: تشابهت القصص الاربع حول نفس القضية في كيفية استعمال اسماء الشخصيات كايوقونات دلالية من البحث في معانيها تفك رموز و شيفرات و بربطها ببعضها تتوضح الرسالة المرجوة ، فتشابهت كلها في رمزياتها مع اختلاف شدة هذه الرموية بين قصة و اخرى، فكلما كان العمل اعمق رمزية كان الابعد عن الجزم في صحة التفسير و الاقرب الى صلاحيتها لكل زمان و مكان. فمثلا اسم حي بن يقظان انما هو دلالة للانسان الحي و ما هو الا ابن لعقله الذي لابد ان يكون يقظا في التفكر و التوصل الى الحقيقة. و كذلك تم توظيف الاسماء كمجرات تحمل معها و تخفي خلفها ابعادا اخرى ستكون عونا لكشف مستور الرسائل المرادة و الغايات المرجوة.
خامسا: من حيث ان بناءها قصصي كان فقد تشابه اسلوب توصيل الفكر بفن القصص و الرواية انما هو دليل على اهمية هذا الفن و الابداع فيه ضرورة .
اما من حيث ان هذه القصة كتبت بعدة اقلام فدراسة الفوارق و نقاط الالتقاء ليغني في فهم الفلسفة الاسلامية من جهة انها فلسفة بالاضافة الى اسلوب كتابة القصص و الرواية كانت في تراث الادب الاسلامي و العربي -حتى و ان كانت تختلف عما نلمسه الان في فن القصص و لكن الفن ليس مستحدثا و انما موجودا في جذور ثقافتنا بداية من تنزيل القران الكريم. و النقاط التالية لا تغني عن القراءة و لكن ارجو ان تعطي افكارا توصلت لها باعمال فكر المقارنة في اعمال مختلفة:
اولا: اسم القصص اختلف من كاتب لاخر فهي "حي بن يقظان" عند ابن سينا و ابن طفيل ، "الغربة الغربية" عند السهروردي، و "فاضل بن ناطق" عند ابن النفيس ، و كما اشرت آنفا كل من هذه الاسماء كان لها دلالات ذات اهداف وظائفية لاكمال هدف رسالة ما كتب.
ثانيا: اختلف العلماء الاربع في بدايات قصصهم و منشأ "حي بن يقظان" في حين اختفى اصله عند ابن سينا جاء ابن طفيل و وضع احتمالين لمنشئه : فقال اما انه تخلق ذاتيا في مغارة او انه القي في تابوت خوفا عليه من ملك ظالم و في اي واحد من ذلك الاحتمالين كانت نهايته في الغابة و ارضاعه عن طريق الظبية التى اصبحت بمثابة امه، و ابن النفيس قال بتخلق "فاضل ابن ناطق" ذاتيا في مغارة . لو قارنا وجود المغارة عند كل من ابن طفيل و ابن النفيس لوجدنا فيها رمزية على بداية الدعوة الاسلامية حيث كان رسول الله (ص) كان ينعزل للتفكر في غار حراء ، و ورد ذكر الغار في طريقه (ص) مع ابو بكر الصديق الى المدينة المنورة، فالغار و المغارة ايقونة الانعزال و التفرد للفكر و الزهد عن الدنيا ، و المغارة من حيث انها تجويف في قلب جبل لهو اشارة اخرى الى عنق معناها.
ثالثا: الاربع قصص كانت عبارة عن رحلات تبدا افقية عبر الاقاليم الارضية ثم تبدا بالصعود العمودي للوصول الى الغاية القصوى و نيل اللذات العلى، و تطبيق مبدأ ان الانسان هو الكون الاصغر و الكون هو الانسان الاصغر.
رابعا: الزهد عن محسوسات و ماديات الدنيا و التصوف كنهاية كان مشتركا في الاربع قصص مع اختلاف اسلوب الكتابة و البنية القصصية عند كل من العلماء الاربعه.
خامسا: توج اختلاف بين ابن طفيل في ان بطله قرر الانعزال و التفرغ للتفكر و العبادة فكان نهايته الى الغار مرة، في حين بطل ابن النفيس لم يجد بدا من الاختلاط مع بني جنسه حيث كان مناديا و مؤيدا الى مدنية الانسان.
سادسا: كان موضوع النبوة احدى اهم الفواصل للتفريق بين قصة و اخرى: ابن سينا توصل الى العلم بالخالق دون ذكر النبوة على انها لازمة