إن كل وجودى موجه نحو الأدب وإننى لو ابتعدت يوما ما عنه فإننى وببساطة سأموت
كـافكا
من جهتنا نحن القراء وبعضنا النقاد آمنا طويلاً بضرورة أن يكون الكاتب اجتماعياً وأن يعيش بين الناس وكل كاتب يبتعد عن الناس لا يكون كاتباً سيئاً فحسب بل هو ضار
إننى ارى كافكا قد ضرب بهذا الاعتقاد والايمان عرض الحائط
حالة ادبية خاصة قد رأى فيه البعض معلماً داعياً لليهودية
ومنهم من رأى فيه نبياً و منهم من رأى فيه ملهماً أو محافظاً
ومنهم من حاول أن يسبر أغوار نفسيته
ولكن كافكا اعظم واعمق من كل تلك الرؤى التى وان نمت فإنما تنم على عبقريته الفذة
ولنعد الى مستوطنة العقاب
تدور أحداث الرواية في جزيرة استوائية لم يحدد لها كافكا اسما كأبطال الرواية
وهما الضابط \ المستكشف \ المجندى \ المحكوم
المستكشف
ذلك الغريب الذي كان يمر بالمكان صدفة و يشهد عملية إلاعدام والتى تستخدم فيها ألة هي عبارة عن جهاز شديد الغرابة والتعقيد
يعاقب المحكوم بها في شكل فريد من نوعه. وطبعاً لا يفهم المستكشف هذا كله من تلقائه بل إنه استبد به الفضول إزاء ما يشاهد
واصغى إلى الضباط الذى بدا بشرح له مايحدث. ومنذ البداية يتبين لمسافرنا أن الضابط مولع بهذه الآلة ضليع في تفاصيل تشغيلها مناصر لها من الناحية التقنية مؤيد لها من الناحية المعنوية والأخلاقية خصوصاً أنها من اختراع القائد السابق الذي بذل جهداً لصنعها. وخلال الحديث الذي يدور حول هذه الآلة وفوائدها وأسلوب عملها بين الضابط والمستكشف
المحكوم عليه
يتجلى لنا هنا ما يثير اهتمام القارىء
كيف أن المحكوم نفسه يصغي إلى الحديث وهو مقيد ولكنه لا يبدي أي رد فعل إنساني كأن الأمر لا يخصه
ولا تبدو على وجهه سوى سمات البله والبلادة ويبدو لنا واضحاً أن أحداً لم يكن قد كلف نفسه جهد إعلام المحكوم مسبقاً بأنه محكوما عليه بالإعدام وبأنه سيعدم بتلك الآلة الغريب بل سندرك بسرعة أن أحداً لم يحاكم في حضوره و لا أحد طرح عليه سؤالاً ولا أحد استمع إليه.
الضابط
هو الذي أعلن الحكم وهذا النوع من الحكم يكون عادة من دون استئناف
ونعرف هذا من طريق الضابط الثرثار الذى لا يتوقف عن امتداح هذا النوع من العدالة أمام المستكشف في الوقت نفسه الذي يسهب فيه في الحديث عن طريقة عمل الآلة
فالمحكوم سيربط عارياً إلى ما يشبه السرير الذي يطوى. ثم وإذ ربط على ذلك النحو ينغلق نوع من الغطاء عليه وهو غطاء مزود بإبر زجاجية حادة تكون مهمتها أن تحفر فوق جسد المحكوم العاري عبارة ما , هى نص الحكم. والذي يحدث هنا كما يخبرنا الضابط من طريق إخبار المستكسف هو أن المحكوم وهو في ذلك الوضع يبدأ بعد مرور أول ست ساعات على تنفيذ الحكم بتفسير العبارة وقراءتها إذ صارت عبارة عن جراح تغوص في جلده غير أنه لن يفسر أو يقرأ بحزن أو ألم بل وهو يشعر بأقصى درجات اللذة. و يموت عادة بعد انقضاء 12 ساعة على بداية تنفيذ الحكم. لكنه لا يموت إلا وقد تحرر تماماً. وإذ يصل الضابط في شرحه إلى هنا نفهم أنه الآن يعتمد على المستكشف كي يقنع المحكوم الذي لا تزال البلاهة مرسومة على وجهه بصواب هذا الأسلوب وفوائد الآلة وعدالتها. ولكن بما أن المستكشف يسارع إلى التعبير عن عدم موافقته لا يكون أمام الضابط إلا أن يطلق سراح المحكوم ثم يلتفت إلى الآلة ويبدأ بتعديل الجملة التي تحفرها فوق الجلد. فالجملة الآن تصبح كن عادلاً. والضابط ما إن ينتهي من أحداث ذلك التعديل حتى يتعرى ثم يتمدد داخل الآلة ويشغّلها. ولكن بعد حين وبعد أن تكون الآلة قد اشتغلت أمام ناظري المسافر كما ينبغي لها أن تشتغل تتوقف عن العمل البطيء في شكل مباغت وهي هنا بدلاً من أن تحفر الكلمة ببطء على جسد الضابط تخرق جسده تماماً بحيث يموت أمام أنظارنا من دون أن يكون فعل التحرر قد طاوله أما المستكشف فإنه هنا يصطحب المحكوم السابق والحارس ويعود إلى المدينة وهناك في مشرب الشاي يبدأ بتأمل قبر القائد السابق إذ إن القبر موجود تحت إحدى الطاولات في المشرب ثم يشير تجاه رفيقيه إشارة تهديد واضح أن الغاية منها ردعهما عن اللحاق به وينسحب ليصل إلى مركبه من دون الآخرين.
ان كان كنفانى هو ملهمى الثورى فإن كافكا من اليوم ( ورغم انه هنا قدر خرج من طور السوداوية الى براح الامل ) فانه يمثلنى كمتمرد على الحياة يقوده المنطق والحقيقة