كتاب أدب الحياة لتوفيق الحكيم أعتقد أنه من المناسب أن يُختصر في كلمتين هما: نقيض الحاضر؛ فكل ما توقعه الحكيم في هذا الكتاب من حالة ما سيكون عليه الأدب في حاضره وآماله في تقدم الفكر وتحرره والكثير غير ذلك حدث وبعظمة أيضًا وقد تجلى ذلك فيمن عاصره مثل نجيب محفوظ وخيري شلبي وإبراهيم أصلان ومصطفى لطفي المنفلوطي وسعد مكاوي، فكل هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر كانوا يمثلون حاضر عصر توفيق الحكيم أو على الأقل حاضر هذا الكتاب، أما رؤيته المستقبلية لعصرنا الآن لم تحدث على أرض الواقع فما إن ذهبت أرواح من ذكرتهم إلى بارئها إلا وحدث ما قصدته بنقيض الحاضر أي بداية عشرات القرن الحادي والعشرين؛ فقد سار الأدب في الاتجاه المعاكس لرؤية توفيق الحكيم المستقبلية، وقد يكون هذا الكتاب مناسبًا لفترة ما قبل هذا القرن أما الآن فقراءته قاسية على عقول القرّاء، فقد كان قلم الحكيم في هذا الكتاب كالكرباج يؤلم بشدة ويترك آثارًا حتى الزمن لا يستطيع إزالتها.
وقد تعبِّر هاتان الفقرتان عما أراد توفيق الحكيم أن يوصله للقرّاء من هذا الكتاب العظيم:
«الاتجاه الغالب المميز للأدب الجديد هو ولا شك أدب الحياة، وأود قبل كل شيء أن أسميه "أدب الحياة" لأن عبارة: "الأدب في سبيل الحياة" قد أثارت لبسًا وغموضًا في الأذهان، وجعلت الكثيرين يقولون إن كل أدب حتى المأخوذ من بطون الكتب القديمة في السير والحكم والبلاغة إنما هو في سبيل الحياة وتجميلها وتهذيبها. وهذا صحيح. ولكن ليس هذا ما يقصده الأدب الجديد ولا شك-فشباب الأدب الجديد يريدون من "أدب الحياة" أن يكون شيئًا آخر غير "أدب الكتب". وإذا كنت قد فهمت غرضهم جيدًا فهم يريدون أن يقوم الأدب على التجربة الحية لإنسان أو عصر أو شعب، وأن تكون هذه التجربة صادقة-ومن هنا جاء اهتمامهم بالواقعية-فلا تزييف ولا تهويل حتى لا تفسد الصورة وتحجب الحقائق. تلك الحقائق التي هي وسيلة العصر الحديث لفهم نفسه، ووعي مشكلاته وإدراك مدى قدرته على حلها، والكفاح من أجل التطور بمصيره، وبذلك يخرج الأدب من وظيفة الحلية البديعة الساكنة فوق الصدور، إلى وظيفة النور البراق المتحرك الذي يفتح الأبصار، ويثير ما في داخل النفس البشرية، ويبرز ما في الأذهان من أفكار معاصرة.»
«إن "أدب الحياة" في بلادنا لن يكون عميقًا إلا إذا كان الأديب نفسه عميقًا في اطّلاعه وفكره وفنه، كما كان "تولستوي" أو "جوركي" أو "برناردشو". "أدب الحياة" أصعب من "أدب الكتب" لأنه أكثر اتساعًا وغورًا، لأنه يشمل الكتب والحياة معًا!
بل إن إهمال التكوين الثقافي، وعدم الإحاطة بالمعرفة من منابعها الأولى إلى آخر ما وصلت إليه، كل هذا قد أدى إلى شيء كثير من التخبط والخلط وسوء التطبيق لهذا الأدب الجديد "أدب الحياة"، مما نتج عنه قيام صيحات الاستخفاف أو الارتياب أو التجريح ضد هذا الاتجاه والداعين إليه، حتى كادت تضيع قضيتهم. إذا أرادوا إذن انتصار فعليهم أن يتجنبوا الخفة والتسرع، وأن يتمسكوا بالصبر والجلد، وأن يشيدوا على العمل والجهد والاطلاع على ما كان ويكون؛ ليبرزوا لنا "الحياة" في عمقها واتساعها وشمولها للفكر والمعرفة والتجربة، لأن تلك هي الحياة: تجربة وفكر ومعرفة!»
الكتاب هو مجموعة من المقالات الرائعة لتوفيق الحكيم يمزج فيها ما بين الواقعية في عصره والتخيلات والآمال التي عقدها في المستقبل، نقلها لنا الحكيم في كتاب تميز بالخيال والواقعية والعمق في آنٍ واحد دون تعقيد أو غموض، ويمتاز أسلوب توفيق الحكيم في هذا الكتاب بالدقة والتكثيف الشديدين وحشد المعاني والدلالات والقدرة الفائقة على التصوير؛ فهو يصف في جمل قليلة ما قد لا يبلغه غيره في صفحات طوال، وقد تمثل ذلك في الكثير من كتبه وليس هذا الكتاب وحسب، وقد أثار هذا الكتاب إعجابي الشديد بفلسفة الحكيم، وغير وجهة نظري للأدب وكذلك سيفعل مع كل من يقرأه، ولذلك قلت في وقت مضى: "قراءة كتاب أدب الحياة لـ توفيق الحكيم فرض عين على كل كاتب وكاتبة" ورغم أنني قلتها على سبيل المزاح لا أكثر إلا أنني أدركت أنها حقيقة مؤكدة، والتقييم للكتاب: 10 من 10.
عـلـى الـهـامـش:
حزنت حزنًا بلغ مبلغ التشاؤم في نفسي وإنه لو تعلمون كبير جدًا عندما وجدت توفيق الحكيم يقول في كتابه أدب الحياة: «إن الأدب الجديد في مستقبل أيامنا سيكون كما أتصوره نابعًا من صميم التجربة الحية لعامل في مصنعه، أو جندي في معركته، أو فلاح في حقله، أو كل شخص في مجاله... كل من اجتاز تجربة إنسانية أو فكرية، واستطاعت ظروف مجتمعه أن توفر له الثقافة التي تؤهله لحمل أداة التعبير الأدبي أو الفني... لن يكون الأدب مجرد رغبة في الكتابة، ولا مجرد ترديد لألفاظ لغوية. إنما الأدب غدًا سيكون هو أداة التعبير الفنية في يد التجربة الحية.»
فكم تمنيت حينها أن يأتي الآن ليرى حال الأدب المعاصر التي يُرثى لها، نوادرٌ من الكتب والروايات هي التي تنبع من التجارب الإنسانية والفكرية كما قال توفيق الحكيم، حتى وإن نبعت من تلك التجربة فإنها لا تقارب أي نوع من الثقافة التي تؤهله ليحمل أداة التعبير الفني أو الأدبي؛ فأصبح كل من هبَّ ودبَّ يكتب، ولا يهتم بالموضوع أو حتى يتساءل حتى القالب المنقول فيه... كيف سيكون؟ بل المهم فقط أن يكتب ولا يهم الباقي، بل إنني أعجب لمن يكتب الرواية أو الكتاب في أسبوع! ويُثار غضبي بشدة عندما أرى كاتبًا له ثلاث من الروايات كل عام على الأقل، فلا شك حينها أن يكون موضوع الرواية أو الكتاب ركيك اللغة شديد القباحة سيئ التعبير والوصف قليل الفائدة... عجبي!!!