"اِعلمْ : أنَّ جوهرَ الإِنسانِ في أصلِِ الفطرةِ خُلِقَ خالياً ساذجاً ، لا خبرَ معَهُ مِنْ عوالمِ اللهِ تعالى ، والعوالمُ كثيرةٌ لا يُحصيها إلاَّ اللهُ تعالى "
المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال
نبذة عن الكتاب
البحث عن الحقيقة بكل معانيها ، مصادرها ، معالمها ، طرائق الوصول إليها ، دوَّنَها حجة الإسلام الإمام الغزالي بأسلوب رشيق وهو يحكي قصته معها . و« المنقذ » أكثر من سيرة ذاتية للإمام ، فهو لم يسطِّر حياته الفكرية فحسب ، بل خاض فيه صراعاً روحياً ذاتياً ، وآخر مع الفلاسفة والباطنية وأهل الكلام والصوفية ، ليصل وبكل موضوعية إلى ترجيح أفق الأخيرة على سائر الفرق . وهو مصدر من مصادر الفكر العالمي ، ومفخرة من مفاخر تطور الفكر الإسلامي . وهو سيرة لعقلية مؤلفه الفذّة ، ومنهج منضبط لسالكي طريق البحث الموضوعيالتصنيف
عن الطبعة
- نشر سنة 2013
- 160 صفحة
- ISBN 978-9953-498-37-9
- دار المنهاج للنشر والتوزيع
تحميل وقراءة الكتاب على تطبيق أبجد
أبلغوني عند توفرهاقتباسات من كتاب المنقذ من الضلال والمفصح بالأحوال
مشاركة من Mohammad M Hamo
كل الاقتباساتمراجعات
كن أول من يراجع الكتاب
-
إشراق الفطافطة (Ishraq Abdelrahman)
كعادته حجة الاسلام أبو حامد الغزالي في حديثه العلمي المنطقي المرفق بالحجة والبرهان والأمثلة الضاحدة يحدثنا عن رحلة الشك التي اعترته في مرحلة ما من حياته والمنهج الذي التجأ اليه بعد توفيق الله اليه لإدراك حقائق الأمور ورد الشبهات. وتطرق أيضاً الى أصناف الناس الذين يطلبون الحق كما كان يطلبه والتي حصرها بعد التمحيص الى أربعة أصناف ورده عليهم:
- المتكلمون (أهل الكلام): المسمى أيضاً بعلم الأصول.
- الباطنية: من يقولون أن لكل ظاهر باطن ولكل شرع تأويل.
- الفلاسفة: أعجبني هذا الفصل كثيراً.
- الصوفية.
وغيرها الكثير... كتاب يستحق القراءة وقد أعجبني قوله هذا جداً:
"مهما نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم قبلوه وإن كان باطلا، وإن أسندته إلى قائل ساء فيه اعتقادهم رده وإن كان حقا، فأبدًا يعرفون الحق بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال"... فيا ليت قومي يفقهون!
اللهم اجعلنا ممن قلت عنهم: "فمن یرد الله أن یهدیه یشرح صدره للإسلام [الانعام [125
-
kareman mohammad
الكتاب شبه سيرة ذاتية للغزالي وسبب دخوله في مرحلة الشك , ورده علي المتكلمين والفلاسفة والصوفية ووجد ان افضلهم هم الصوفية ,,, واثبات خلافه معاهم بالعقل والمنطق .... الكتاب ك عادة الغزالي رائع
مما أعجبني ...
• أن المتحیر لو قال: أنا متحیر ، ولم یعین المسألة التي هو متحیر فیها ، یقال له: أنت كمریض یقول: أنا مریض ولا یعین مرضه ، ویطلب علاجه. فیقال له: لیس في الوجود علاج للمرض المطلق ، بل لمرض معین: من صداع أو إسهال أو غیرهما. فكذلك المتحیر ینبغي أن یعین ما هو متحیر فیه
• عادة ضعفاء العقول ، یعرفون الحق بالرجال لا الرجال بالحق. والعاقل یقتدي بسید العقلاء علي رضي الله عنه حيث قال (( لا تعرف الحق بالرجال ) بل ) اعرف الحق تعرف أهله (( و) العارف ) العاقل یعرف الحق ، ثم ینظر في نفس القول: فإن كان حقاً ، قبله سواء كان قائله أهل الضلال ، عالماً ] مبطلاً أو محقاً ؛ بل ربما یحرص على انتزاع الحق من أقاویل أهل الضلال
• رأي الغزالي في الصوفية .... فظهر لي أن أخص خواصهم ، ما لا یمكن الوصول إلیه بالتعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات. وكم من الفرق بین أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابهما وشروطهما ، وبین أن تكون صحیحاً وشبعان؟ وبین أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استیلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر ، وبین أن تكون سكران! بل السكران لا یعرف حدّ السكر وعِلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصَّاحي یعرف حدّ السُكر واركأنه ومَا معه من السكر شيء. والطبیب في حالة المرض یعرف حدّ الصحة وأسبابها وأدویتها ، وهو فاقد الصحة. فكذلك فرقٌ بین أن تعرف حقیقة الزهد وشروطه وأسبابه ، وبین أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنیا! فعلمت یقیناً أنهم أرباب الأحوال ، لا أصحاب الأقوال.
• أنه لا مطمع ) لي ( في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنیا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا یتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق
• وأن الجهل بالله سم مهلك ؛ كما قال تعالى)) في قلوبهم مرضٌ ((أن معصیة الله ، بمتابعة الهوى ، داؤه الممرض ، وأن معرفة الله تعالى تریاقه المحیي ، وطاعته بمخالفة الهوى ، دواؤه الشافي ؛ وأنه لا سبیل إلى معالجتة بازالة مرضه وكسب صحته ، الا بأدویة ؛ كما لا سبیل إلى معالجة البدن إلا بذلك.
• ما لك تقصر فیها فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبیعها بالدنیا ، فهذه حماقة! فإنك لا تبیع الاثنین بواحد ، فكیف تبیع ما لا نهایة له بأیام معدودة؟ وٕان كنت لا تؤمن ، فأنت كافر! فدبر نفسك في طلب الإیمان ، وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطناً ، وهو سبب جرأتك ظاهراً ، وٕان كنت لا تصرح به تجملاً بالإیمان وتشرفاً بذكر الشرع !
-
مروه عاصم سلامة
في الوقت الذي تكون فيه أقصى شهيات العزلة أن نهجر شاشةً الكترونية نقلبها بين الإصبعين كيف نشاء ...ثم لا نجد حتى إلى ذاك الفرار استطاعة ...هجر الغزالي حياة !!..زوجةُ وصغيرات ووطنا تقلد فيه كرسيّ علمٍ تحيطه هالةً من صيتٍ وإكبارٍ وجاه ...فأي قرارٍ يا ترى هو أكثرمن ذلك شجاعة؟؟ ...إن حقيقة ما يؤلمني الآن هو أن عشر سنوات من الاعتزال والكفاف في دروب التيه ومضارب الشتات، بالكاد كانت كافيه لإخماد جوع ضميره إلى خلوة من التأمل والاعتكاف، بينما لم نزل نبخل بأعمارنا على ضمائرنا المنهكة بعظيم السؤال ولو بالفُتات !! ...فقل عجزا إذن ما فينا ولا تقل قناعة!! ...وجرب معي مثلا أن تتخيل رجلا عالما عابدا هكذا دونما حاجة لإبداء أي أسباب، يمشي مرتحلا من أرضه بغزير الحيرة ويسير الزاد ،ليشق عباب الحسرة من فراق الأحبة واللمز بعيون الأعداء ..ثم يرد لسان حاله الجميع واثقا: إني ذاهبُ إلى ربي سيهدينِ!! ...ليعود بعدها مجددا وإماما يُوجب له أكثر من ذي قبل التبعة والإصغاء ..لعلنا ندرك وقتها أننا لو أهدينا الشك فينا مثله عقدا منظوما من سنين العمر، لربما رُزقنا حينها صدق اليقين.. فمن يوقَ شُحّ عمره فأولئك هم المهتدون.
عصف الشك بالغزالي ابتداء من حقيقة الدين ومرورا بفرق المتدينين ومذاهب الناس وانتهاء بالطعن في صدق العقل وإدراك الحواس ...من أجل ذلك صار قدر هذا الكتاب عند أهل العلم كامنا في إيجازه البليغ للرد بالحجة المستبصرة على أشهرتلك الفرق التي شاعت بذلك الزمان كالباطنية وأهل الفلسفة وعلوم الكلام ..غير أن أهميته عند أمثالي إنما تسكن في غلالة من فضولٍ شغوفٍ حفّت هذا السرد الشخصي الحميم كله من أعلى السطرحتى أخمصه...فمنحته لمسة من الصبا غير المألوف لا لكتّاب ذاك العصر ولا لرجل قد بلغ حين تدوينه الخمسين من العمر ...وعن مثل ذلك سأورد ها هنا وإن أطلت.
يحكي الإمام أبو حامد الغزالي عن رحلته من بعد تنازع نفسه فيما بين قرار الرحيل وضعف البقاء ..فقال:
" وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع ( لي ) في سعادة الآخرة إلا بالتقوى ، وكف النفس عن الهوى ، وأن رأس ذلك كله ، قطعُ علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإقبال بكُنه الهمة على الله تعالى. وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال ، والهرب من الشواغل والعلائق.ثم لاحظت أحوالي ؛ فإذا أنا منغمس في العلائق ، وقد أحدقت بي من الجوانب ؛ ولاحظت أعمالي – وأحسنها التدريس والتعليم - فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى ، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أني على شفا جُرُف هار ، وأني قد أشفيت على النار ، إن لم أشتغل بتلافي الأحوال.
" فلم أزل أتفكر فيه مدة ، وأنا بعدُ على مقام الاختيار ، أصمم العزم على الخروج من بغداد ومفارقة تلك الأحوال يوماً ، وأحل العزم يوماً ، وأقدم فيه رجلاً وأؤخر عنه أخرى. لا تصدق لي رغبة في طلب الآخرة بكرة ، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة فيفترها عشية. فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام ، ومنادي الإيمان ينادي: الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إلا قليل ، وبين يديك السفر الطويل ، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وتخييل! فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن [ هذه العلائق ] فمتى تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ، وينجزم العزم على الهرب والفرار. ثم يعود الشيطان ويقول: ( هذه حال عارضة ، إياك أن تطاوعها ، فأنها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض ، والشأن المنظوم الخالي عن التكدير والتنغيص ، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم ، ربما التفتت إليه نفسك ، ولا يتيسر لك المعاودة). "
" فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعي الآخرة ، قريباً من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة. وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ أقفل الله على لساني حتى اعُتقل عن التدريس ، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب المختلفة [ إلي ] ، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة ، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب ، بطلت معه قوة الهضم ومراءة الطعام والشراب: فكان لا ينساغ لي ثريد ، ولا تنهضم ( لي ) لقمة ؛ وتعدى إلى ضعف القوى ، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، ثم لما أحسست بعجزي ، وسقط بالكلية اختياري ، التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له ، فأجابني الذي (( يجيب المضطر إذا دعاه )) ، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال (والأهل والولد والأصحاب) ، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أدبّر في نفسي سفر الشام حذراً أن يّطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي على المقام في الشام ؛ فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً. واستهدفت لأئمة أهل العراق كافة ، إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون للإعراض عما كنت فيه سبب دينيّ ، إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين ، وكان ذلك مبلغهم من العلم."
" ففارقت بغداد ، وفرّقت ما كان معي من المال ، ولم أدخر إلا قدر الكفاف ، وقوت الأطفال ..ثم دخلت الشام ، وأقمت به قريباً من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة ؛ والرياضة والمجاهدة ، اشتغالاً بتزكية النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وتصفية القلب لذكر الله تعالى ، كما كنت حصلته من كتب الصوفية. فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق ، أصعد منارة المسجد طول النهار ، وأغلق بابـها على نفسي.ثم رحلت منها إلى بيت المقدس ، أدخل كل يوم الصخرة ، وأغلق بابـها على نفسي. ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج ، والاستمداد من بركات مكة والمدينة. وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله وسلامه عليه ؛ فسرت إلى الحجاز...ودمت على ذلك مقدار عشر سنين ، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن احصاؤها أواستقصاؤها"
كان الغزالي من أول من تحدثوا في الفارق بين (العلوم اليقينية) التي تحتاج إلى الدليل والبرهان كعلوم الطبيعة وما شابهها ...وبين (العلم الظنيّ) كالإلهيات ومحلها القلب ...وقد عبر عن ذلك بطرق كثيرة منها قوله : " وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضُعتا في جِبِلَّتي ، لا باختياري وحيلتي ، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُر ، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهود ، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام. وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :" (( كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه ويُمجِّسَأنه))، فتحرك باطني إلى ( طلب ) حقيقة الفطرة الأصلية ، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين ، والتمييز بين هذه التقليدات ، وأوائلها تلقينات ، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات ، فقلت في نفسي:أولاً إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور ، فلا بُد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب ، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم ، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أنا يكون مقارناً لليقين مقارنة لو تحدى بإظهار بطلأنه مثلاً من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً ، لم يورث ذلك شكاً وإنكاراً ؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة ، فلو قال لي قائل: لا ، بل الثلاثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها ، وشاهدت ذلك منه ، لم أشك بسببه في معرفتي ، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك فيما علمته ، فلا ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه ، فليس بعلم يقيني"
ثم استبدت به ذروة الشك إلى حسّه العقلي وحواسه الجسدية ، فكان له في ذلك تأملات ...مثل قوله : " ثم فتشت عن علومي (أي الدينية) فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بـهذه الصفة (أي علم يقيني) إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس ، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليَّات ، وهي الحسيات والضروريات ، فلا بد من إحكامها أولاً لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات ، وأمني من الغلط في الضروريات ، من جنس أمني الذي كان من قَبلُ في التقليديات ، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات ، أم هو أمان محققٌ لا غدر فيه ولا غائلة له؟ فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات ، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها ، فانتهي بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً ، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول : من أين الثقة بالمحسوسات ، وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم ، بالتجربة والمشاهدة ، بعد ساعة ، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم يكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته...قلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات ، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً ، موجوداً معدوماً ، واجباً محالاً. فقالت الحاسوسات (أي منطقه العقلي) : بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ، إذا تجلى ، كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك ، لا يدل على استحالته "
من بعد ذلك قد تظن أن شفاءه من ثورة الشك تلك كانت بإعجاز هو من المنطق والعقل بحيث لا يُشق له غبار، غير أن ترياق اليقين عنده كان أبسط من ذلك أو لعله أعقد!! ..ليثبت كما كرر مرارا بأن العقائد والأديان إنما هي (علوم ظنية) ..ومحال إثباتها بعقليات (العلوم اليقينية)...فما كان مرهونا بالقلب لا يعوزه إلا الاطمئنان ....يقول رحمه الله: " فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل ، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض ، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة ؛ ولما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه في قوله تعالى : ((فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام)) ، قال: (( هو نور يقذفه الله تعالى في القلب )) فقيل: (وما علامته ؟) قال: (( التجافي عن دار الغُرُورِ والإنابة إلى دارِ الخُلُود )) . وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه: (( إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ ))"
كان بودّي لو أفصح قليلا عن بعض ما اعتراه من بعد العودة إلى سابق عهده بالحياة .....وكأني بذلك قد أستطيع القياس!! .. فعشرة أعوام من الصمت المرنّم بالعبادات والصلاة ...هي كفيلة للإلحاح على خاطري: ثم ماذا ؟؟ كيف بدا لك أول وقعٍ لتساقط القتلى ونزاعات الناس؟؟ ...فحيح الخصومات ..وصريح الأطماع ...قنوت الدعاء ...همس الرغبات ...وحتى التعلق بالأبناء؟؟ ..إلى أن فهمت أنه لا شئ مما كُشف له قد يُدرك سواءً في ذلك أوصف أم لم يصف ..وكأنه قد كُتب على باب الارتحال إلى الله منذ أجيال : " فقط من ذاق عرف".