نجمتان فقط أقيم بهما هذا الكتاب الذائع الصيت لدرجةٍ لم تجعلني أتردد في أن أبدأ بقراءته حالما وقعت يداي عليه؛ ظناً بأنني سأجد فيه تاريخاً قيّماً موثقاً لنشوء الحضارات والمدنيات والدول.
قرأت حتى وصلت المنتصف ولم أجد عن نشأة هذه الحضارات سوى الظنون، ولم ألقى سوى تكهنات صيغت بعبارات: "وأغلب الظن" و "يعتقد أن" و حسب ما نرى أن"، وهذا معلوم ومتوقع مسبقاً بالنسبة إلي لأن هذا الجزء من الكتاب قد ضم "ما لم يدونه التاريخ" على حد تعبير الكاتب.
المشكلة لدي كانت في هذه التكهنات نفسها، فقد أخذ الكاتب ما وجده عند القبائل البدائية المنتشرة حالياً في أرجاء العالم، وعممه على أنه كان الأصل وكان هو واقع الإنسان البدائي، وكأن هذه القبائل ما هي إلا لـ "ناجين" من تلك العصور إلى العصر الحاضر.
كما أن تكهناته حول أساليب اكتشاف الإنسان الأول لحواسه وللبيئة المحيطة وجدتها مهينة وغير منطقية.
لنقل أن كل ذلك غير ذي أهمية، حسناً.. قد أغض الطرف عن ذلك، ولكنني لا أستطيع ذلك أمام طريقة العرض المتعالية التي عرض الكاتب بها تاريخ القبائل.
فكمؤرخ.. يفترض به أن يبعد مشاعره وظنونه واعتقاداته عن أسلوب كتابه، ولكن كل ذلك كان واضحاً وبقوة من طريقة كلامه. فحتى لو كانت الشعوب الأولى بدائية وبعيدة عن "المدنية والتحضر" -بمفهومهما الحالي- إلا أن ذلك لا يعني بأن يصفهم بـ( الهمج - الرعاع - المتخلفين - الأميين - الجهلة ..)، ناسياً أن المدنية الأوروبية الحديثة التي تغنّى بها طول الكتاب ما هي إلا نتاج لـ"تخلف" هؤلاء الـ"الهمج".
لكل عصر مفهومه عن التحضر، وهذا ما لم يراعه الكاتب هنا.
(( لربما تكون هذه المصطلحات متعارف عليها لدى المؤرخين ولا ضير من ذكرها، ولكنني كـ "غير مورخة" لم أحبذها ولم أر ملائمتها للسرد إطلاقاً )).
كما أن وصفه للدين على طول الكتاب كان فيه نبرة إلحادية لم يكن يجدر به إقحامها لو كان موضوعياً، فقد تحدث عن الدين لدى الإنسان الأول على أنه كالأفيون للشعوب تأخذه لحاجة منها لـ"ترهيب" الأفراد بشيء من الخرافات والأساطير، وأن الدين الآن حين "تمدنت" الشعوب وتحضرت؛ قد رمته بعيداً وتخلصت منه..
فكأنه يرمي كل ملتزم بالدين اليوم بالجهالة والتخلف وحب الأساطير!! فما هذا ؟؟.
ربما لم يهتم بقية القراء لهذه الملاحظات أو لم يلمسوها لدى قراءتهم، و ربما أكون أنا الوحيدة التي أرى الأمور من هذا المنظور، وقد أكون الوحيدة المنزعجة منها.. ولكن في النهاية لم أستطيع إلا أن أنوه إليها في مراجعتي..
ولكن رغم كل ذلك، كان للكتاب محاسن وإيجابيات استطعت الخروج بها منه. كأن آخذ فكرة عن التسلسل الزمني لنشوء الحضارات، وعن العادات الغريبة للقبائل الأولى، وعن اكتشافاتهم واختراعاتهم وصناعاتهم وغيرها..
كانت الصفحات الثلاثون الأخيرة من الكتاب هي الوحيدة المثيرة للاهتمام. حيث تم الحديث عن العصرين الحجريين القديم والحديث؛ وتطوّرِ الإنسان فيهما فيما يخص الصناعة والزراعة والتجارة والفنون واكتشاف النار والفخار والمعادن.
فكان الحديث هنا قائماً على مكتشفات وأحافير ورسومات كهفية تم اكتشافها فعلاً وتم التأريخ على ضوءها.
فحتى لو كان تأريخها عبارة عن تكهنات أيضاً، ولكنها تكهنات مبنية على حقائق مثبتة المجمل، فجاء التأريخ لتفاصيلها، و كملء للفجوات المجهولة على طول خط سيره.
على العموم كان الكتاب لا بأس به..
قد أتابع قراءة بقية أجزاءه لاكتشاف المزيد عن قصة الحضارة. فلربما تكون أجزاءه عن التاريخ "المدون" أقل إثارة للأعصاب من هذا الجزء عن "غير المدون".