عند الإنتهاء من هذا الكتاب القيم الفياض الغزير أدركت أنني لم أقرأ كتابا واحدا بل هو مجموعة من الكتب المتصلة التي يحمل كل منها موضوعا مختلفا تناوله الكاتب بقلم رشيق وبتفصيل لا ملل فيه ولا تقصير
إنطلق يوسف زيدان في كتابه هذا من محطته المفضلة دوماً .. الأسكندرية .. وديانتها القديمة وكيفية تطورها التي تزامنت مع التقدم الزمني للمدينة العظيمة فمن سيرابيس الإله السكندري الذي أسس لعبادته بطلميوس الثاني جامعاً فيه بين السمات اليونانية والمصرية مكسباً إياه ملمحاً مختلفاً يعبر عن المدينة الوليدة ويميز ثقافتها عن غيرها من الثقافات العتيدة.
عرج الكاتب بعد ذلك إلي الإنتقال التدريجي للمسيحية من خلال عرضه للعديد من الفلسفات التي ظهرت ونشأت في الاسكندرية أو تطورت عن نظريات يونانية قديمة في ظل المناخ الثقافي والفكري المزدهر بالاسكندرية وجامعتها المعروفة آنذاك.
منها: النظرية الافلاطونية التى بلورها آمنيوس ساكاس أو الفلسفة الفيثاغورثية والهرمسية .
ولم يفت الكاتب التطرق –بإقتضاب في الفصل الاول وبإستفاضة في الفصل التالي- للديانة اليهودية وما يتعلق بنشأتها وتدوينها وكتابيها الشهيرين التوارة والتلمود وفترات قوة اليهود بالمجتمع السكندري وأوقات ضعفهم. وتعد النبذات التي قدمها الكاتب للأسفار السته للتلمود كافية جدا للإلمام بمحتوى هذا الكتاب وبمعرفة كيفية سير الفكر اليهودي الذي يتناقض في بعض الأحيان فيترواح بين اللين والرحمة في مواضع وبين القوة التي تصل إلي البطش بالخصوم والمختلفين "الأغيار" في مواضع أخرى.
قبل الإنتهاء من هذا الجزء من الكتاب بعرض كيفية دخول المسيحية إلي مصر وإلي الأسكندرية تحديدا أول موضع تم التكريز فيه يعرض الكاتب أمر جماعة غامضة في التاريخ المصري وهي الجماعة الغنوصية والتي لم نعرف عنها شيئاً سوى من مخطوطات قديمة وجدت في نجع حمادي في صعيد مصر خلال أربيعنات القرن الماضي. ويبدو منها أن هذه الجماعة خالفت في إعتقادها إعتقاد الكنيسة المصرية وقتها.
ثم يعرض الكاتب في فصل لاحق عرض شيق جدا للجماعات الشيعية وأرائها المتعددة إنطلاقاً من شرح معنى التشيع ومبتدأه التاريخي وصولاً إلي شرح تفصيلي لجماعات الشيعة المختلفة كالعلويون والدروز والزيدية واليزيدية والقرامطة والاسماعيلية والحشاشون وغيرهم (فصل يستحق القراءة بإمعان شديد)
كل هذه التفاصيل الغنية تحتاج إلي تفصيل أكثر في مؤلفات متعددة وهذا ما قام به يوسف زيدان بالفعل على ما أظن ، ولكن القادم هو أكثر ما أعجبني بالكتاب .. "فصل الحسبة على الأفكار والأفئدة"
والمقصود من الحسبة هنا هو محاسبة الناس على أفكارهم والتفتيش في ضمائرهم !! وقد كانت الحسبة سابقاً أمر تنظيمي يخص المراقبة على السلع بالأسواق ومراقبة الأسعار وماهتالك ثم تطور الأمر لتصير مراقبة على ما يعتمل في نفوس البشر .. وقد عانى الكثير من العلماء والمفكرين من الحسبة على أفكارهم المحدثين منهم والقدماء .. فيذكر لنا الكاتب أمثلة رائعة يضيق المقام هنا عن تفصيلها منها الحديث مثل ما حدث مع المفكر أبي نصر حامد الغزالي منذ سنوات بإن قضت المحكمة بكفره وفرقت بينه وبين زوجه على هذا الأساس الواهن الواهم المتوهم !! .. ومنها من الأمثلة القديمة كالذي جرى مع أحد أئمة المسلمين وهو الأمام أحمد بن حنبل رحمه الله الذي قال بخلق القرآن وخالف ما قال به المعتزلة في قدم القرآن وهي مسألة فلسفية تختلف فيها العقول وتعدد فيها الأراء ولا ضير في ذلك ، أما وأن يُقتل الإمام لأنه يخالف في رأيه الرأي الذي إستقر عليه الحاكم وقتذاك وشيوخه المتمسحين بسلطانه فهذا من عجائب الزمان !!
يروي لنا الكاتب عن ذلك الحدث الرهيب ما يلي :
بعث الخليفة إلي الإمام ابن حنبل يهدده إما بالإعتراف العلني بإيمانه بخلق القرآن وإما بقتله في موضع لا يثرى فيه شمس ولا قمر . فقال الإمام : إن الإيمان هو شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. فقال المعتصم: ويحك يا أحمد ، ما تقول في القرآن؟ قال الإمام: يا أمير المؤمنين ما أعرف هذا الكلام إنما طلبت أمر ديني وصلاتي وأعلّم الناس. فأمر الخليفة الجلادين فعلقوه بين السماء والأرض و راح كل جلاد يضربه بكل ما أوتى من قوة!
من الأمثلة التي عرضها يوسف زيدان في هذا الكتاب أيضا وقد أثارت إندهاشي هو ما تعرض له الإمام البخاري صاحب الجامع الصحيح في الحديث النبوي الشريف والذي لكتابه هذا المقام الأعظم عند أهل السُنة بعد كتاب الله ، فهذا الرجل العظيم أوذي في زمانه بسبب من أقاموا أنفسهم حماة للدين حتى دعى الشيخ ربه قائلاً : "اللهم إني قد ضاقت على الأرض بما رحبت فأقبضني إليك" فتوفي في سمرقند عام 256هــ رحمه الله وله هناك مقام بديع في أوزباكستان الحالية.
يقدم الكاتب بعد ذلك العديد من الأمثلة التي تستحق القراءة مثل ما هو مشهور عن واقعة الحلاج وكذلك عن الإمام الطبري الذي قتله الموتورون من أتباع ابن حنبل لخلاف في الرأي بينه وبينهم ناسين أن شيخهم الجليل الذي يتمسحون بثوبه اليوم قد قتل وعذب بالأمس للسبب نفسه !!!
تلى ذلك ما رواه الكاتب عن محنة عميد الأدب العربي د/طه حسين عندما ترصد له بعض الجهلاء وأقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد صدور كتابه "في الشعر الجاهلي" وقد تعرض طه حسين وقتها للتحقيق في النيابة ولهجوم شرس لم تنتهى تبعاته حتى اليوم وفي ذلك ما يتماس مع ما تعرض له يوسف زيدان نفسه بعدما تفرغ أحد الدهماء لإمطاره بوابل من القضايا العجيبة لأنه رفض أن يعطيه مساحة من الوقت لإلقاء محاضرة بمكتبة الأسكندرية فبلور إنتقامه إلي محاسبة الرجل على أي هفوة كبرت او صغرت في كتبه ولو أنه أفرد هذا الوقت الذي أضاعه في الإستفادة من العلم الموجود بهذه الكتب لكان خير له من أن يقضي عمره متصيدا لخطأ مطبعي هنا أو هناك !!.
إجمالاً .. إن التاريخ العربي حافل بما اسماه الكاتب "الحسبة على الأفكار والأفئدة" ولو تعلم العرب انه لا يفل الحديد إلا الحديد وأن الأفكار لا تواجه إلا بالأفكار وأن محل الخلاف المناقشة وليس القتل والتنكيل لما صاروا إلي ما صاروا إليه الأن !!
والآن إلي جزئي المفضل من الكتاب وهو الجزء الأخير الذي أفرد له الكاتب فصول ثلاثة تحدث فيهم عن "الصوفية والمتصوفة" و رؤيتهم للعالم و نقاط إتفاقهم وإختلافهم مع السلفيين وعن إنتاجهم الأدبي ...
يقول الإمام الراعي أحمد الرفاعي : " ما دخل ساحة القرب من الله من إستصغر الناس وإستعظم نفسه، من أنا، ومن انت؟ أنا لست بشيخ، لست بواعظ، لست بمعلم ، حشرت مع فرعون وهامان إن خطر لي أني شيخ على أحد من خلق الله ، إلا أن يتغمدني الله برحمته فأكون كآحاد (أفراد) المسلمين. أي سادة تفرقت الطوائف شيعاً وحميد بقي مع أهل الذل والإنكسار والمسكنة والإضطرار إلي الله ، إياكم والكذب على الله. ينقلون عن الحلاج أنه قال "أنا الحق" ولو كان على الحق ما قال أنا الحق. إياكم والقول بهذه الأقاويل إن هي إلا أباطيل. ما هذا التطاول؟ المتطاول ساقط بالجوع ساقط بالعناد. أين هذا المتطاول من صدمة صوت "لمن الملك اليوم؟".
هذه إحدى أقوال الشيخ أحمد الرفاعي الذي قدم الكاتب لنا حياته الرائعة التي قضاها في حب الله كما قدم حيوات العديد من اهل الله الصوفيين كالسيد أحمد البدوي والشيخ إبراهيم الدسوقي وغيرهم بصفة بحثية علمية بعيدة عن أساطير العامة من محبي هؤلاء الأولياء.
وينهي يوسف زيدان كتابه بالبحث في العلاقة بين الفن والصوفية فعرض للرقصة المولوية التي إبتدعها مولانا جلال الدين الرومي وعرفت برقصة "سما" وفيها يدور الصوفي حول نفسه في حركة دائرية كحركة الكون، وكذلك موسيقى الناي التي برع فيها الصوفية فيقول فيه مولادنا جلال الدين الرومي في ديوانه المثنوي : "استمع إلي صوت الناي كيف يبث ألام الفراق، يقول: منذ قطعت من الغاب والناس تبكي لبكائي، إنني أنشد صدراً مزقه الحنين" وهو يربط ها بين الروح الإنساني الذي هبط من الجوار الإلهي وبين البوصة التي قطعت من منبتها فصارت ناياً. ثم ينتقل الكاتب إلي نوع أخر من الفنون برع فيها الصوفية وهو فن الشعر فيعرض لنا في فصل كامل "فصوص النصوص الصوفية" عرض فيها روائع الإمام الأكبر محي الدين ابن عربي والسهروردي وغوثية الإمام عبد القادر الجيلاني ويورد فيها كأن الله جل وعلا يخاطبه قائلاً: "يا غوث الأعظم ، ما بعد عني أحد بالمعاصي ولا قرب مني أحد بالطاعات. أهل المعاصي محجوبون بالمعاصي وأهل الطاعات محجوبون بالطاعات ، ولي ورائهم قوم ليس لهم غم المعاصي ولا هم الطاعات." وكذلك رسائل الحكيم الترمذي مثل رسالتيه الرائعتين "حفيف أجنحة جبرائيل" و "بدو الشأن"
وإنني لأفضل أن أختتم هذا التعليق القاصر بما قاله الحلاج مناجياً ربه يوم مقتله:
نحن بشواهدك نلوذ
و بسنا عزتك نستضيء
لتبدي لنا ما شئت من شأنك
و أنت الذي في السماء عرشك
و أنت الذي في السماء إله و في الأرض إله
تجلى بما تشاء
مثل تجليك في صورتك على أحسن صوره
و الصوره هي الروح التي افردت بالبيان و القدره
...
و هؤلاء عبادك اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك و تقربا إليك فاغفر لهم
فاغفر لهم
فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي , ما فعلوا ما فعلوا
و إنك لو سترت عني ما سترت عنهم , ما لقيت ما لقيت
فلك التقدير فيما تفعل و لك التقدير فيما تريد ..