لطالما احتفظت ذاكرتي بصورة تلك السيدة ذات الملامحة الهادئة التي كانت مرفقة بمقال صغير في مجلة المدرسة عندما كنت في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي.. إنها مدام كوري.. وقتها لم أكن أدرك لأهمية ما اكتشفته ألا وهو النشاط الإشعاعي وعناصر الراديوم والبولونيوم، لكن صورتها بقيت معلّقة في ذهني.
وقعت على هذا الكتاب وكان اكتشافاً على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لي، وللأسف لم أستطع الوصول إليه ورقياً وقد قرأته إلكترونياً...
ماريا سكلودوفسكا.. الابنة الصغرى من 5 أطفال لأبوين معلمين من الطبقة المتوسطة البولندية (بولندا تحت الاحتلال الروسي)، التي أثبتت على درجة عالية من الذكاء والتفوّق خلال سنوات دراستها الأولى وشغفها الكبير للعلم (الذي زرعه فيها والدها). عانت ماريا الكثير خلال سنوات حياتها الأولى من فقر وضيق ذات اليد، والاضطرار للتظاهر بحب الروس (تخفي انتماءها العميق والمترسّخ دوماً لبولندا)، وعملت كمربية أطفال وتعرّضت للكثير من المصاعب والمضايقات في سبيل تحقيق حلمها وهو: الدراسة في جامعة السوربون (كان محرماً على الفتيات في بولندا الدراسة في الجامعة، وكانت فرنسا في ذلك الوقت متحررة نوعاً ما، بما يسمح للفتيات أن يدرسن في الجامعات وإن كن قلّة قليلة).. وصلت ماري للسوربون وتحملّت برد باريس القارص والوحدة والمشاكل المادية التي لا تنتهي من أجل العلم، ولا شيء غير العلم.
قابلت ماريا (التلميذة الصغيرة) بيير كوري – أستاذ الفيزياء – وعملت في معمله المتهالك، وقد وقع الاثنان في حالة من الاتحاد الفكري والحب العقلاني وتزوجا وأنجبا (أيرين (عالمة كيمياء وحاصلة على جائزة نوبل أيضاً) وإيف: فتاتان). تحمّل بيير وماري صعوبات كثيرة من أجل إجراء تجاربهما وإثبات نتائجها ولم تتعاون الحكومة ولا أي من العلماء معهم.. لكن ماري تحملت وصبرت وجاهدت من أجل إثبات أنها اكتشفت عنصراً جديداً وهو الراديوم ذي النشاط الإشعاعي (كان متوقّعاً بأنه سيشفي من السرطان وقد أحدث ضجة إعلامية كبيرة جداً بأنه سيغير حياة البشر للأفضل).. تحدّت ماري مجتمع الرجال (حتى وإن كانوا علماء) وأثبتت نجاحها الباهر وفازت بالنهاية من زوجها بيير بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1903.
تأثرت جداً بموت بيير المؤسف تحت أرجل حصان يجر عربة، ولم يدرك أحد وقتها بأن (الراديوم كان هو السبب في ضعف عظام بيير وهشاشتها).!
بعد وفاة زوجها الحبيب، واصلت ماري إجراء تجاربها، ونجحت بالحصول على كرسي الإستاذية في جامعة السوربون (المنصب الذي كان زوجها يشغله) لتكون بذلك أول امرأة تشغل هذا المنصب في تاريخ الجامعة. وتأثرتُ بشدة أيضاً عندما بدأت محاضرتها الأولى لتكمل ما بدأ بها زوجها في محاضرته السابقة وبنفس أسلوبه وكأنهما شخص واحد!
حصلت ماري أيضاً على جائزة نوبل في الكيمياء أيضاً 1911. واصلت نضالها من أجل إثبات مكانة المرأة وتحدت الجميع من أجل العلم.
ماتت ماري في النهاية بسبب طفلها المحبوب (الراديوم).. من الحب ما قتل!
وقد تأثرت جداً عندما شاهدت صورة قبر ماري وبيير في مقبرة العظماء في باريس.
التاريخ الآن يخلّد اسم (التلميذة الصغيرة) ماري سكلودفسكا كوري (أم الكيمياء) بحروف من ذهب مع زوجها بيير كوري.
ماري كوري مثال حقيقي للمرأة العالمة المناضلة المُحبّة للسلام والتي كرّست علومها من أجل خدمة البشرية.. وإني أشكر الله بأنها لم تبقَ حيّة لتشاهد ما الذي حصل في العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن واستخدام العلم من أجل الهدم. كانت هذه المرأة وستبقى مثلاً أعلى لي شخصياً في الكفاح والصبر والوطنية.
---------------
من اقتباساتها:
"لا ينبع الاكتشاف العظيم من دماغ العالِم جاهزاً (...) لكنه نتاج تراكم أعمال سابقة."
"كن أقل فضولاً بالناس، أكثر فضولاً بالأفكار."
"إنني من هؤلاء الذين يعتقدون أن في العلم جمال رائع. إن العالِم في معمله ليس مجرد فني، إنه أيضاً طفل وُضع أمام خاصية طبيعية أذهلته مثل قصة خيالية، ويجب علينا ألا نسمح بالاعتقاد أن كل التقدم العلمي يمكن أن يختزل لمجرد آلية، ولا أعتقد أن روح المخاطرة ستختفي في عالمنا، فإذا رأيت أي شيء مليء بالحيوية حولي فإنه بالضبط روح المخاطرة التي تبدو غير قابلة للهدم."