نحن في عصر متسارع في خطاه ون ضمن خطواته كلامه،فتحولت الرسائل المطولة والتي كانت تكتب بخط اليد إلى رسائل إلكترونية مختصرة،فلم يعد هناك إهتمام كبير بالتفنن بالخطوط وأيضاً بإنتقاء العبارات التي ستكتب كما الماضي،ففي الماضي اللغة العربية الفصحى هي التي كانت السائدة في الرسائل بينما الآن يميل البعض إلى اللجوء إلى اللهجات وهناك من لا يهتمون حتى بصحة الإملاء إن كتبوا بالفصحى ولا يبالون بمدى وضوح العامية وهم يكتبون بها،وفي السابق كانت الرسائل لها أنواع كرسائل المعاملات الرسمية ذات الديباجات الفضفاضة لعرض المطالب أو للشكوى ورسائل من إغتربوا الممتلئة بالحنين وأحياناً كانت ترافقها صورهم ورسائل أهل الغرام التي تدس في كتب أو جيوب الأحبة بالسر وكان هناك هواة رش العطر عليها،وفي وقتنا الحالي بقيت هذه الأنواع ولكن طرأت تغييرات عليها ،فهي صارت أقصر بإستثناء الرسائل الرسمية، وبالطبع الرسائل غدت مكتوبة بالألواح الإلكترونية سواء كانت عن طريق أجهزة الهواتف أو الحواسيب ،أما العنصر الفارق بين الأوقات السابقة والحالية فهو أن متلقي الرسالة يستطيع أن يرد فورياً أو بسرعة بسبب التطور التكنولوجي الكبير ولكن ماذا إن لم يرغب في الرد!ماذا لو غير عنوان بريده الإلكتروني وجاءت رسالة تنبه لتعذر الوصول إليه،ماذا لو ظهرت العلامة التي تظهر بأنه إستلم رسالة على الواتساب وبأنه قرأها و إختار ألا يرد،ماذا لو وصلته الرسالة على هاتفه ولكن تصل المرسل رسالة غالباً ما تكون آليه تخبره بأن هذا الرقم المطلوب،ماذا لو أتته التغريدة أو هكذا يظن كاتبا حتلا يعرف بأن حسابه محظور،وماذا لو كانت رسالة كتبت يدوياً تعود أدراجها إلى من كتبها وإلى عنوانه لعدم تواجد المتلقي،وماذا لو كانت رسائلنا مثل دفاتر الذكرى نقول فيها ما نريد ولا نحبذ أن يراها أحد ،إنها رسائل لا ترسل ،هي كتبت لهذا الغرض؟!
عن هذه الرسائل وخاصة الأخيرة يحدثنا كتاب (رسائل ترد للمرسل) للكاتب عمرو سلامة،وحسب تعبير كاتبنا بأنها جاءت على شكل "أشباه قصص قصيرة"،وهي بالفعل قصص قصيرة من ناحية الهيئة التي تم تقديمها فيها ومن ناحية رسم معالم الشخصيات فيها،والكاتب بالرغم من قوله بأنه لا يحب المقدمات لأن الكثير من القراء بطبيعتهم لا يحبون،فالعديد من المقدمات توصف بالتطويل وأحياناً بعد الفائدة،وإذا به يكتبها بكمية ونوعية مشاعر تستحق الإحترام لما فيها من عذوبة وإنسانية وشفافية فكلمات الأغنية التي إستمد منها العنوان هيجت هكذا مشاعر،وقد ذيل هذه المقدمة بتوقيع قارئ وكأنها رسالة وهو بهذه الطرية أرسى اللبنة الأولى للرسائل المقبلة على القراء،أول رسالة كانت "رسالة للريس" وهي كما يتبادر ذهننا قد وجهت من مواطن بسيط إلى رئيس دولته،وهذا المواطن يبدو لنا من خلال ما قاله بأن دماغه قد غسل بالولع بهذا الرئيس بإيعاز من جده،وميزة هذا الرئيس حسب معايير الجد هو أنه لم يزد من سوء فقره،أما بخصوص واقعة لقاء الحفيد بالرئيس والجهود التي بذلها لحصول ذلك فهي تنتمي للكوميديا الداكنة بالسخرية،وهي بالطبع رسالة طلب مسامحة لن يتم إرسالها،أما الرسالة الثانية فهي من مواطن أيضاَ ولكنها كانت إلى صاحب منصب كبير ،والمواطن هنا يكتب بالعامية ليوصل حنقه الشديد على رداءة الأوضاع في موطنه وهو بمشاغباته اللفظية وبإسهابه في ذكر التفاصيل المتعبة لهوالتي أغلبها يومي قد وضع "المسؤول " في وضع محرج ويبدو وكأنه أفحمه ،فهو كان يذكر صاحب المنصب بمسؤولياته وبأن عليه أن يعرف كل شاردة و واردة عن البلد ومن ضمنها الإبقاء على الشوارع نظيفة ومع ذلك فالرسالة لم تغادر راحة يد هذا المواطن الساخط،و واصل الكاتب رسائله القومية وإن كان قد حاول خداعنا في "رسالة للمكان"،فالمواطن هنا كان عاشقاً ومعشوقته هي دياره وخاصة القاهرة،فكان على مدار الرسالة يتعامل مع هذه المعشوقة كما يتعامل المغرم بالحبيبة التي أفقدته صوابه ومع ذلك فهو هائم بها،هو يستدعي ذكرى تعرفه عليها وكيف تعلم أن يتكلم مثلها ليحاورها وكيف كان يسير معها وكيف كان يشتاق لها ،أما الرسالة التي خطفت صدمتي وإعجابي وذهولي فهي "رسالة إلى الدكتور النفسي شيرين عبدالمولى"،فهي تجسد بالحروف كيف تؤذي النفس البشرية غيرها لدرجة ترك شقوق و شروخ فيها،والكاتب صورها بأنها "تقتل" وعبر عنها على أنها من الجرائم التي ربما لا يحاسب عليها القانون ولكن ضررها لعله يكون أشد من غيرها،كل ذلك تم من خلال رسالة وجهها مريض نفسي إلى طبيبه ونهاية هذه الرسالة كانت مؤثرة جداً،والرسالة التي تليها جاءت كحكاية أيضاً وهي "للمرسيدس السمرا" وهي كتبت بمنتهى المرارة من قبل من عرف رجل أعمال ممن كانت له أعمال مشبوهة في الخفاء حاول أن يغطيها بمظهر ديني،وهو كتبها لسيارة المرسيدس لأن رؤيته لهذه السيارة هي التي حركت إشتهاء حب المال والسلطة فيه وبالوسيلة التي ظنها توافق مبتغاه،وفي ختامها نحس بحرقة السجائر وحرقة روح ضلت سعيها،وهناك "رسالة لحلم اليوم و واقع يوماً ما" وهي رسالة غزلية بكل جدارة ،وما زين هذه الرسالة هو أنها خالفت النظرة المعتادة في الرسائل العاطفية،فالمتيم هنا يرجو من إنتشلت قلبه من الوحدة أن لا تنتحل شخصية أخرى فتكون ذاتها،فهو قانع بأنها أحلى بكل ما فيها من عيوب ويريدها أن تقبل به وبعيوبه،وفي "رسالة من شخص آخر" المنظور مختلف ،فالمتيم هنا خضع لرغبة حبيبته بأن يعانق التفاؤل في هذه الحياة وبذلك صار بإمكانه أن يراسلها،ومصدر هذا التفاؤل كان ألم علمه معنى وقيمة أن يكون المرء حياً ومحبوباً،وفي "رسالة تحت المخدة" حب من نوع مغاير،فالزوج وبكل صراحة يخبر زوجته بأنه يحب غيرها،وإذا بنا نكتشف بأن الأخرى هي زوجته في الفترة الأولى من حبهما،فهو ما زال متمسكاً بهيامه بشعرها ويتأملها وهي ساكنة،وفي "رسالة لن تقرأ" وهي نسجت من الوجع بسبب أمل خاب وغاب،فبعد ترقب كبير وإستعدادات هائلة فقد والدان مولودهما بعد فترة قصيرة من ولادته،وهنا ننصت إلى عاطفة أب من مجتمع شرقي وهو يبوح لابنه المتوفي عن حبه له ،فما أصعب وضع من تمنى أن يسمع كلمة "أبي" ولكن لم يقدر له ذلك،وفي "رسالة من وإلى نفس المرسل" وهي عبارة عن خاطرة قالها من صاغها لذاته وهو يسترجع فيها ملاحظاته عليها وما يتمناه لها وما فاتها وما يأمل لها أن تجده،وفي "رسالة لجمهور البهلوان" شعرت بأني أقرأ رواية مختصرة وزاويتها سينمائية ولعل هذا يعود لخلفية كاتبنا،فهنا البطل المتلهف للشهرة والذي خان من ساندوه للوصول إليه ليعرف بعد ذلك تبعات أفعاله ويعاني من قساوة الإبقاء على نجوميته،وربما يقول البعض بأن هذا النوع من القصص قد تم النهل منه حتى الإشباع ولكن ما قام به الكاتب من خلال تعبيره التصويري كان متميزاً،وحملت أخر رسالة وهي "رسالة وداع" ظرافة ذكية من قبل الكاتب عن تمنيه في أن يلقى كتابه إعجاب القراء،وسأنتهز هذه الفرصة لأرد على هذه الرسالة بما إني من القراء حتى وإن لم تصله،وأقول له فيها :
حكاياتك المستمدة من نبض الحياة والتي إخترت وأنت مصيب في إختيارك بأن تكون كرسائل ،هي حكايات إستفزت أفكاري عن ما نحذفه في الرسائل التي نكتبها،فهذا المحذوف يبدو عالقاً فينا شئنا أم أبينا حتى لو قلنا بأننا عهدناه للنسيان،فرسائلك وحكاياتك في هذا الكتاب وصلت لأنك كتبتها بدون طمس للحقائق الحياتية التي فيها ولأسلوبك الحريص على نقل ما ترصده عدسة الحياة حتى بين أسطر الرسائل !