لا يخفى على الكثير أن فيديور دوستويفسكي قد أوغلَ كثيراً في رواياته في كوامن النفس البشرية و ما يعتريها من بواعث و اعتلاجات كثيرة ... أعتقد بأن قلمه يستحق أن يطلق عليه "مشرط النفس البشرية" مثل مشرط الطبيب الذي يشرح الجثث ليفهم تركيب الجسم. أن مشرط دوستويفسكي شرح جميع أنواع النفس البشرية مثل : "نفسية المجرم و ما يعانيه من ألم و تخبط و محاولة لتبرير جريمته في الجريمة و العقاب" " ونفسية الرجل الذليل الذي يعيش في أمل أن يظفر بمحبوبته و من ذُلت في حب فتى طائش و ما ألحقته من ذل و مهانة لأهلها في مذلون مهانون" " إلى تشريح المراهق و تقطيع نفسيته لأوصال في هذا العمل الفني الرائع " ... فهذا الأديب عاني و جرب جميع أنواع الألم النفسية ابتداءاً من تسلط والده المخمور ، و انتهاءاً بانتظاره تنفيذ حكم الاعدام الذي نجا منه قبيل لحظات من تنفيذ الحكم. ليخرج لنا أدباً مثل العسل المصفى
...............
( لقد فرغ صبري ، فها أنا ذا آخذ بكاتبة قصة خطواتي الأولى في طريق الحياة)
هكذا أبتدأت الرواية في مجلدها الأولى بلسان بطلها المراهق آركادي دولجوركي ، ولكن ليست على صور يوميات ، بل في صورة مذكرات و ذكريات. ثم يسهب دوستويفسكي في سرد أحداث هذا المراهق الذي يكتب بنفسه أحداث هذه الفترة من حياته بطريقة غير أدبية و غير صورية حتى أنه يزدري هذا المراهق المتهور الأدباء بقوله: " لست بالأديب على كل حال و لا أنا أحب أن أكون أديب" فيلاحظ أن أسلوب الرواية يوهم القارئ بركاكة و تخبط و كأن الكاتب يريد أن ينزل القارئ في و يشعره بحالة التوهان التي يعيشها المراهق ( وليس يعني بالمراهق أية مراهق ، بل المراهق شديد الذكاء ، ذو النشأة الاجتماعية اللعينة التي تربي في داخل الانسان عقد نفسية بسبب نظرة الناس له مثل أن يكون المراهق منبوذ في محيطه لكونه ابن زنا و يعاقب بجريرة غيره مما يهيأه ليكون قنبلة موقوته ... و من خلال قرائاتي لمجموعة من روايات الكاتب الروسي يتضح بأن شخصياته ما هم إلا عبارة عن شخصيات يائسة ذوي ذكاء حاد جداً و على حافة الانتحار و كلهم متفلسفين تجري الفلسفة على لسانهم)
فأعتقد بأن لذة هذه الرواية تكمن في توهانها و أسلوبها المراهق المزعج.
أيضاً الأسماء في الرواية تزيد تعقيد الرواية بنسبة ١٠٠٪ ... مرة يستخدم الاسم الثلاثي للشخصيات ، و مرة الاسم الأول فقط ، و في مواضع آخرى يستخدم الألقاب.
أيضاً الحوارات في هذه الرواية جميلة جداً و تجذبك في مواضيعها (مثل الحوار بين المراهق و أحد الأمراء عن النساء و كيف أنهن يجلبن الشفقة بوقاحتهم )
...............
حقيقةً تبقى لي جزء آخر حتى نستعرض هذه الرواية بمراجعة محكمة تامة ، لكن أستطيع القول بأن هذه الرواية هي تمثيل لفترة من حياة هذا الأديب الفيلسوف بسبب أن المراهق بطل الرواية يحمل أفكار و يعيش بأسلوب و كأنه آحد أتباع المذهب العدمي ، و لكن أيضاً من شدة ضياعه يؤمن بفكرة عليا و مثال يحتذى به .... فبسبب هذا التخبط أعتقد أنه يتحدث عن نفسه لكونه يعتبر مؤسس المذهب الوجودي الذي ينسب إلى الفيلسوف الفرنسي بول سارتر .... قد يكون دويسوتفيسكي هو من عاش في العدمية في فترة مراهقته ثم توصل إلى النتيجة الوجودية في كبره. مجرد استنتاج قد يكون صحيح و قد يكون خاطئ.
...............
اقتباسات :
1-"رب أديب يسلخ من عمره ثلاثين عاماً في الكتابة ثم يجهل ثم يجهل آخر الأمر لماذا كتب طوال هذه السنين. وعندي أن استخراج ما تنطوي عليه نفسي و وصف عواطفي من أجل أن أعرضها في سوق الأدب هي في نظري من الأمور المعيبة و الوضيعة."
2- "لماذا تكون الأشياء التي يعبر عنها انسان ذكي أغبى كثيراً مما يبقى في ذهنه ؟"
3-رب امرأة تفتنك بجمالها أو بما لا أدري في طرفة عين ؛ و رب أمرأة آخرى لابد لك من ستة أشهر حتى تعرف مصدر السحر و أن ترى هذا السحر. فهذه المرأة الثانية إذا أن أردت أن تراها كاملة و أن تحبها لا يكفي أن تنظر إليها ، ولا يكفي أن تكون مستعداً للإقدام على شيء، و إنما ينبغي أن تكون موهوباً بشيءٍ آخر.إنني من ذلك على يقين رغم إنني لا أعرف شيئاً، و إلا كان يجب أن ننزل جميع النساء إلى منزلة الحيوانات الداجنة و أن لا نحتفظ بهم لدينا إلا على هذه الصورة.
4-ليتفق في كثير من الأحيان لرجل أن يواجه امرأة أن يبدأ الفعل دون أن يقول كلمة واحدة ، و واضح أن هذا منتهى الشذوذ و أنه يثير أقصى الاشمئزاز.
5-أن من حق كل شخص أن يفصح عن رأيه في الهواء.
6-أن حياة كل امرأة ، مهما يكن كلامها ، ليست إلا بحثاً أبدياً عن سيد تخضع له .. أن فيها ظمأً إلى الخضوع إن صح التعبير.
7- " إني لأتساءل هل يستطيع العنكبوت أن يكره الذباب الذي يتربص به و ليقبض عليها ؟
8-كثير من البشر يتحول الاستدلال المنطقي عندهم أحياناً إلى عاطفة قوية تستولي على وجودهم كله، فيصعب طردها أو تعديلها. فلكي نشفي انسان أصيب بهذا الداء علينا أن نغير هذه العاطفة بالذات ، و هذا لا يمون ممكناً إلا بأن نحل محل هذه العاطفة عاطفةٌ أخرى تساويها. و ذلك صعب دائماً حتى لقد يكون في بعض الأحيان مستحيلاً.
9-لا يكفي بأن تدحض فكرة جميلة ، و إنما ينبغي لك أن تحل محلها فكرة تضارعها الجمال.
10-إلى الشيطان فليذهب جميع الناس : أمضوا في سييلكم ، كيدوا بعضكم لبعض ، كلوا بعضكم بعض ، فيما عسى أن يعنيني أنا هذا كله؟!
11- أن أبسط الأفكار و أوضح الأفكار هي بعينها أعسر على الفهم. لو أن كريستفور كولمبوس أراد قبل اكتشاف أمريكا أن يروي فكرته للآخرين لظلوا مدة طويلة لا يفهمونها فيما أعتقد.
12- أن المال وحده يستطيع أن يقود أمرىء إلى المنزلة الأولى ، و لو كان تافهاً لا قيمة له.
13- أن فكرة مباهج العمل إنما اخترعها أناس عاطلون عن العمل ، أناس فضلاء طبعاً ، هذه فكرة من أفكار جان جاك روسو.
14-تستطيع أن تصور مدى ما تسبغه ضحكة جميلة على المرء من سحر و فتنة.
15- ففي وسعك أن تدع الضحك و هذا التهكم لأولئك الذين لا يملكون إلا هذه الوسيلة انتقاماً لتفاهتهم
16- أن الواقعية التي لا ترى ما هو أبعد من الأنف أشد خطراً من الخيال الجامح المجنون لأنها عمياء
17- مهما يكن الميت جديراً بالشفقة و التسامح ، فما نزال نحن أحياء فلا داعي أن نسرف في الحزن
18- ليس من حقي أن أحكم على الآخرين ، لأني لا آجيد الآلم ، ومن أجل أن ينصب المرء نفسه حاكماً و قاضياً يجب عليه أن يكتسب حق الحكم بما يقاسي من آلام.
19- لهذا السبب أرى يا ماما أن حب الأبوين منافٍ للأخلاق ، فهو حب لا يحظى به المرء عن جدارة و استحقاق ، في حين ينبغي أن يكون الحب مستحقاً.
20- رأي أنه من غير الجائز لأي انسان ، لا لابن و أبيه فحسب ، أن يتحدث إلى شخص آخر عن علاقته بامرآة ، مهما تكن هذه العلاقة طاهرة و نقية ، بل كلما كانت هذه العلاقة أطهر و أنقى كان كتمانها أوجب و ألزم. أن الحديث في هذه الأمور يثير الاشمئزاز و ينافي الكياسة.