أخزاني قصر قامتي بجانب هذا الكتاب ..كما أعياني وقوفاً فكرياً متكرراً على أطراف الأصابع كي أطاله..فبينما يكون حديث (أمين معلوف) ربطاً للكثيرين عن ماكان للعالم من أحداث ماضية وسياسات حاضرة ، هو في الوقت عينه كان تأكيدا لي أني ما زلت أدفع ثمن أعوام من القراءة المكثفة فيما يسمى بكتب (العودة إلى الطبيعة) او كما كانت تسميها أمي بكذب (الهروب من الواقع).. فبينما كنت أحلم ببضع غنمات أسوقها في البيداء لأحقق سعادتي الفردية والصفاء....كان آخرون يقرأون التاريخ ويطالعون الشرقي والغربي من الجرائد والصحف ..يفكرون بما يرون ..ويغربلون ما يسمعون..يغمسون أكفهم وسط لزوجة الدماء بحثاً عن الرصاصة ..ويؤمنون أنهم بذلك إن أخفقوا في منح العالم أدوات للسعادة ..فهم بالتأكيد فسروا له أسباباً أكثر منطقية للشقاء...واحداً من هؤلاء بالتأكيد هو (أمين معلوف) ..وحتى إن لم تقرأ له من قبل فأنا على يقين بأنك تعرفه ..هو ذلك الرجل الذي ينصت له نفر من الناس في إحدى المكاتب او المقاهي او حتى العربات ..يحدثهم بعقلانية عن أسباب تدني سعر المخلوقات مقارنة بالنفط والمحروقات أو ينذرهم بضرورة العمل على الحد من الاحتباس الحراري قبل أن يعرج على أهمية تقبل ما للغير من ثقافات.. ولكن ما أن يصل إلى بيان أثر كلاً من هذه المشكلات على حياته والآخرين ..حتى يعلو صوتاً غوغائياً من بين الجموع ((يا عم أمين سيبها على الله)) ...أعلم أنك قابلته مرة أو ربما مرتين.. كما أعلم أنك تعلم حتماً أي الرجلين كان هو الأعلى صوتاً حتى الآن.
سيلُ جارف امتداده 314 صفحة كان هذا الكتاب ..ارتطمت فيه عدة مرات بعبارات كمثل ((سأعود لاحقا بمزيد من الإسهاب في هذه المسألة)) ((سأتوقف أولا عند هذه النقطة)) أو ((سأرجع إلى هذا الموضوع فيما بعد)) ..فنصيبي من تعليمٍ كسيح كان وراء صعوبة تقبلي لحديثه المسهب الفقير إلى التصنيف والعناوين في كل حين ..وليس لعقلي القدرة على رشاقة القفز من موضوع لأخر ثم الرجوع إلى حيثما كان للسيل من معين بمثل تلك السهولة ..ولكن المفارقة كانت أني رددت فيما بين نفسي وبيني أن ما دفعه لذلك كان نوعاً من الإخلاص في الإيضاح مما جعل لحديثٍ يائس كهذا حظاً لا بأس به من حماسة.
هذا نذرٌ يسير من أسباب اختلال العالم في عين (أمين معلوف):
((اننا انتقلنا من عالم كانت فيه الانشطارات أيدولوجية بالدرجة الأولى وكان النقاش فيه متواصلا إلى عالم باتت فيه الانشطارات (هووية) بالدرجة الأولى وللنقاش فيه حيز صغير فراح كل واحد ينادي بانتماءاته في وجه الأخرين ويطلق لعناته ويؤبلس أعداءه ..هل لديه ما يقول غير هذا ؟؟ ما أقل المراجع المشتركة بين أعداء اليوم!))
((لم تحصل نخب العالم العربي ألإسلامي لا على تطور ولا على تحرر وطني ولا على ديموقراطية ولا على حداثة إجتماعية وجلّ ما حصلت عليه نسخة محلية عن ستالينية قومية لا تحوز شيئا مما جعل للنظام السوفيتي إشعاعه العالمي فلا خطابه الأممي ولا إسهامه الكثيف في دحر النازية خلال 1941-1945 ولا قدرته على بناء قدرة عسكرية من الطراز الأول ..بل نسخة أمينة لأسوأ عوراته وانزلاقاته في كره الأجانب ..عنفه البوليسي وإدارته الإقتصادية التي أثبتت عقمها واحتكار الحكم لمصلحة حزب أو فئة أو زعيم ))
((إن الفكرة القائلة بأن الغرب يواجه حفنة من الإرهابين يتحدثون زوراً باسم الإسلام وأن أعمالهم تقابل بالشجب من جانب الكثرة الكبرى من المؤمنين لا تتفق مع الواقع دائما .صحيح أن المذابح الشديدة الفظاعة كمذبحة مدريد في 2004 تثير اشمئزاز العالم الإسلامي إلا أننا إذا رصدنا عن كثب (القبائل الكروية) لوجدنا أن ما يندد به بعضهم يبرره آخرون ويعذرونه بل يصفقون له أحيانا))
((ما أخذه على العالم العربي اليوم هو فقر وعيه الخلقي وما أخذه على الغرب هو ميله إلى تحويل وعيه الخلقي إلى أداة للسيطرة .قد نبحث عبثا في خطاب بعضهم عن أثار انشغال أخلاقي ما أو عن الرجوع إلى قيم (مسكونية-انسانية) أما في خطاب الأخرين من الغرب فهذه الانشغالات في كل مكان إلا أنها انتقائية وتوضع دائما في خدمة سياسة ما ولذلك فإن الغرب لا يكف عن فقدان صدقيته الخلقيه فيما لا يحوز مناوؤه أية صدقية من أي النوع ))
يشبه ازدواجية المعايير الغربية فيما خص القيم الإنسانية وهي أن البشرية واحدة ((وليس هناك حقوق انسان لأوروبا غيرها لأفريقيا أو لآسيا)) بما شهد يوما في براغ فيقول ((كنت في براغ سنة 1989 حين ابتدأت التظاهرات ضد (شاوشيسكو) في بوخارست وكتبت يد بالانجليزية على لوحة بجوار كاتدرائية ((شاوشيسكو لا مكان لك في أوروبا)) كان غضب الشخص المجهول مشروعا ولكن صياغة الشعار صدمتني وكان بودي أن أسأله : في أية قارة يمكن أن يوجد مكان لديكتاتور ؟؟ فالديكتانور غير مقبول في أوروبا يغدو مقبولا في الجانب الآخر من البحر المتوسط هل في هذا دليل على احترام الآخرين ؟؟ ))
وعن الطائفية يقول ((رب سائل يقول أليس هناك مسؤلية لأمريكا وإسرائيل عن واقع الأمور ؟؟ بلى دون شك ..أنا مؤمن أن السلوك الخاطئ للمحتل الأميركي قد أسهم في إغراق البلاد في عنف طائفي ولكن حين يقعد ناشط سني وراء مقود شاحنته الملغومة ويمضي ليفجر نفسه في سوق شعبي ترتاده عائلات شيعية ثم يوصف هذا القاتل ب(المقاوم) و(البطل) و(الشهيد) من قبل خطباء متزميتين فلا تعود هناك فائدة من اتهام الأخرين بل يتوجب على العالم العربي بالذات أن يتفحص ضميره أي كفاح يقود؟ عن أية قيم يذود؟ ينقل عن النبي (ص) : ((خير الناس أنفعهم للناس)) هذا شعار سامي ينبغي له أن يثير أسئلة مؤلمة عند الأفراد والقادة والشعوب ))
يسرد مفارقة غريبة بين عصر الاسلام الأول والحالي فيقول ((لقد أحسست بالقلق خلال سنة 2007 إزاء الأخطار التي تتعرض لها أقلية صغيرة وهي (المانديين أو الصابئة ) في دجلة جنوبي بغداد )) ثم يشير إلى أن ذكر الصابئين ورد مع أهل الكتاب في القرآن الكريم وهو يشير بذلك إلى سورة البقرة ويقول أنهم استطاعوا بهذا الاعتراف القراني عبور كل هذه القرون السابقة وممارسة شعائرهم بحرية من طقوس يتبعون فيها (يوحنا المعمدان) دون أن يطالهم الأذى الذي لحق بهم مؤخرا حيث صار عددهم 6 ألاف بعد أن كان في 2002 ثلاثون ألفا و((هكذا تكون ثقافة ألفية قد اندثرت أمام أعيننا في جو من اللامبالاة)) ثم يتبعه بالمثال الثاني فيقول (( وحين أفكر بأن أحد أكابر الشعراء القدامى (المتنبي) قد طاف في العراق وشبه الجزيرة العربية مدعيا النبوة في ذلك الزمن أي القرن العاشر ولم يمنع المؤمنين ذلك من الاستماع إلى الشاعر والاعجاب بموهبته ولو أنه فعلها اليوم لكان مصيره الشنق أو قطع الرأس دونما حاجة إلى الشكليات))
ثم وكأنه يقرأ السؤال من ذهني فيقول (( هل يعني هذا أن أسلافنا كانوا أكثر حكمة وأكثر تسامحا ؟؟لا أظن ذلك فلقد كان دائما هناك ملوك متعطشون إلى الدم ومذابح دينية ومجازر بشرية )) ويرجح دون تأكيد أن بقاء مثل هذه الطوائف سالمة يعود إلى ظروف محلية فيقول ((فحين كانت حادثة خطيرة تحصل في قرية ما كان لابد من مرور أسابيع قبل أن تسمع بها بقية المناطق وكان هذا يحد من انعكاساتها اما اليوم فإن الادلاء بتصريح أرعن عند الظهر قد يكون ذريعة لحصول مذبحة مساء اليوم وقد تكون اشاعة باطلة وعندما تُعرف الحقيقة تكون الشوارع قد امتلأت بالجثث )) وهو ما يسميه معلوف في موضع آخر ب((عولمة الطائفية))
((إن ما نشكومنه هو الهوة المتزايدة عمقا بين تقدمنا المادي السريع والذي يزيد خروجنا من عزلتنا كل يوم وبين تقدمنا الخلقي البطئ الذي لا يسمح لنا أن نواجه العواقب المفجعة لهذا الخروج )) ويذكر هذه المفارقة دليلا على صدقه فيقول متحدثا عن والده الذي كان يديرجريدة محلية في لبنان (( سألته يوما وأنا أشير إلى رزمة الصحف: أي واحدة منها أصدق ؟؟ فأجابني : ولا واحدة وجميعها ولن تأتيك واحدة منها بكل الحقيقة لكن إذا قرأتها كلها وكنت ذو بصيرة فستفهم ما هو الجوهري وفيما خص الإذاعات كان والدي يستمع إلى البريطانية واللبنانية ثم القاهرة وصوت أميركا وغيرها وغالبا أفكر في الفرح الذي كان ليشعر به لو أتيح له هذا العصر الذي نعيش فيه ))
ثم يصف على الجانب الآخر((كثيرون من الناس يكتفون بالاستماع إلى صوت الجرس الذي يداعب آذانهم فإنه مقابل شخص واحد ينتقل بانتباه بين فضاء ثقافي وآخر يوجد آلاف لايزورون سوى مواطنيهم وابناء دينهم ولا يشربون سوى من الينابيع المألوفة ولا يبحثون أمام الشاشات إلا عن تعزيز قناعاتهم وتبرير ضغائنهم)).
تحدث فيما بين ذلك عن الشرعيات الزائفة للحكام وعن نتيجة تفكيك الإقتصاد الموجه في ازدهار الصين واليابان وأهمية تتبع هذه التجربة في العالم العربي وكذلك أبدى مخاوفه إزاء إحتمالية صدق إنذارات (الاحتباس الحراري ) وكانت نظرته لها من جانب ان التغير الجغرافي الأرضي نتيجة لذلك قد ينذر بهجرة البعض ونزوح الاخرين إلى مواطن أخرى غير التي درجوا فيها ولن يكون حينها التعايش السلمي في هذا الكوكب يسيرا في ظل هذه الضغائن والعدائية النفسية لكل ما هو مختلف وآجنبي ويقول (( يبدو لي أن الوقت قد حان لتغيير عاداتنا وأولوياتنا كي نصغي بمزيد من الجدية إلى ما يقوله لنا العالم الذي نبحر على متنه ذلك أنه لم يعد ثمة غرباء في هذا القرن لم يعد هناك إلا (رفاق سفر) وسواء كان معاصرونا يسكنون الجهة الأخرى من الشارع او الجهة الأخرى من الكرة الأرضية فهم لا يبعدون عنا سوى خطوتين))
جدياً أستطيع القول أنك إن كنت ممن عافاهم الله سبحانه من المرض والفقر وأردت أسباب أكثر موضوعية للاستمتاع برفاهية الاكتئاب فعليك بهذا الكتاب.