كنت اشعر بأن اسطنبول ذاتها تسقطني في وضع ازدواجي ويائس، من المؤكد ان جوامع المدينة التي أحبها كثيرا، وأسوارها وساحاتها الصغيرة، وبوسفورها، وسفنها، ولياليها، التي تبدو لي مألوفة دائماً، وأضواءها ورخامها، لا تستحق أن يلقى عليها الذنب، ولكن أمراً آخر يوحد أناس المدينة، ويسهل التواصل بينهم، التجارة والانتاج وعيش الحياة، وكنت اشعر بأنني لم أحقق توافقاً معها، احترام التقاليد والذين سبقونا، والكبار والتاريخ، والأساطير وانه يصعب علي تأسيس توافق بين "نفسي" و"دنيانا" .
قالوا إن أورهان باموق هنا في "اسطنبول الذكريات والمدينة" صاحب سيرة ذاتية ولا كتاباً عن مدينة، بقدر مايبدو نصّاَ خلاباً عن علاقة عميقة يتداخل فيها الخاص بالعام في رحلة اكتشاف الذات من خلال استرجاع التفاصيل عبر علاقتها بالزمان والمكان،يستعيد باموق في "اسطنبول الذكريات والمدينة" بمهارة وخفة لا متناهية شجن طفولته وسيرة عائلته وسيرة المدينة التي شكل البحر جزءاً هاماً من هويتها وثقافتها، حيث يلعب مرور سفن الشحن الصدئة، وحوافل خطوط نقل المائية في المدينة، والبوارج المتعددة الجنسيات دوراً في ايقاع حياة المدينة وايقاع حياة الكاتب التي كما يقول غدت جزءاً لا يتجزأ من حياته كأغراض البيت.
يروي باموق بعض تفاصيل طفولته بين نيشان طاش وجيهان غير وأحياء اسطنبول الأخرى، لكنه لا يكتفي بالذكريات بل يقوده ذلك إلى بحث في المراجع التاريخية، وفي ما كتبه الرحالة وزائري المدينة عبر التاريخ عن اسطنبول (تيوفيل غوتييه – جيرار دو نيرفال – غوستاف فلوبير) بالإضافة إلى ما كتبه ووثقه باحثين ومؤرخين أتراك آخرين عن أسباب الحزن الكامن في هذه المدينة، وذلك الشعور بالانكسار، الذي ترافق مع انحدار مجتمع نشأ في الدولة العثمانية المترامية الأطراف، باتجاه مجتمع يبحث عن هوية في ظل قيم اجتماعية جديدة، اختلطت فيها الطبقات الاجتماعية فيها تحت لواء الجمهورية وعلمانية كمال أتاتورك، ففقدت القصور القديمة على شاطئ البوسفور ألقها مع الزمن، ونشأت أحياء جديدة على أطراف اسطنبول القديمة، يمثل ساكنوها مجتمعاً آخر ملتبس الهوية مشتت الثقافة بين الشرق والغرب، في حالة من الارتباك الحزين بين الماضي العريق الذي غدا ظلاً غامضاً في حاضر يفتقد الجذور.
وتحت ظل هذا الاختلاط المربك نشأ باموق حاملاً الإحساس بالانفصال الذي يتحدث عنه من خلال تفاصيل كثيرة خاصة، تدور حول حياته الشخصية وتاريخ العائلة والقيم التي نشأ في كنفها، وعامة تتعلق بالمجتمع والظروف التي أحاطت بنشأته وظروف وقيم المجتمع والتي شكلت انفصاما قابلاً للتعميم بين الفكرة والواقع، وبين الشخص ومحيطه، بين اورهان باموق الطفل في صورة على الجدار في منزل في "نيشان طاش" كما يوضح في الصفحة الأولى من سيرته، واورهان باموق الذي أصبح في المدينة المنفصمة الحزينة، عند حديثه عن المدينة الحديثة التي يعيش فيها، فيقول باموق: كنت اشعر بأن اسطنبول ذاتها تسقطني في وضع ازدواجي ويائس، من المؤكد ان جوامع المدينة التي أحبها كثيرا، وأسوارها وساحاتها الصغيرة، وبوسفورها، وسفنها، ولياليها، التي تبدو لي مألوفة دائماً، وأضواءها ورخامها.
"اسطنبول الذكريات والمدينة" كتاب حميم وعميق، يتحول فيه عمران المدينة إلى بناء للمشاعر والأحاسيس، ويتابع فيه القارئ العلاقة الجدلية بين المدينة وسكانها، والتمزق بين انتماءات لشرق ينتمي للماضي، وغرب لم يصل بعد للمستقبل