اسم الرواية: الاخوة كارامازوف - الجزء الثانى
تأليف: فيودور دوستويفسكي
ترجمة: سامى الدروبي
عدد الصفحات: 342 صفحة
التقييم: 5/5
ما سر عظمة "الاخوة كارامازوف" تلك دو غيرها من اعمال روسيا فى عصرها الادبي الذهبي؟و لم كانت حياة اسرة صغيرة مشتتة فى يومين اثنين لا اكثر تشغل 4 مجلدات ضخمة و تشتغل بال النقاد و القراء حتى بعد مرور قرنين من الزمن على اصدارها؟ و لم تتجدد كارامازوف و تتألق عبر الزمن و لا يؤثر فيها انفضاء عهد بعض احداثها؟
اسئلة لم يكتمل الاجابة عليها فى الجزء الثانى من الملحمة تلك لكن الاشارات و قطع البازل الصغيرة التى ظهرت لنا تكفي لتكوين فكرة عامة الى حين استكمال النصف الاخر من ملحمة الروسي العبقرى الضخمة
حديث ازلى شائق و ممتع و مرهق حد الجنون هو ما يغذى دوستويفسكي افكارنا به , "الرحمن و الشيطان يتقابلان" دائما و ابدا و الخير يقابل الشر فى رقصة ابدية محمومة , ملك الاسترسال يحيك لنا جمل مطولة ساحرة عاصية على الاقتباس لكنها تدوخنا و تثير فكرنا
***************
- انا فى الظاهر راهب , فهل انا راهب حقا يا ليزا؟ لقد قلا منذ هنينة انى راهب
-نعم قلت ذلك؟...
-راهب...و مع ذلك قد لا اكون مؤمنا بالله
-أأنت لا تؤمن بالله؟ ماذا دهاك؟ كذلك سألته ليزا محذرة بصوت خافض و لكن اليوشا لم يرد , ان هذا القول الذى افلت من لسانة يعبر عن فكرة غامضة تشوى قرارة قلبه و لعله لا يستطيع هو ان يستبينها و لكنها كانت تعذبه ما فى ذلك ريب
الاقتباس السابق وحده يعبر عما يقدمه دوستويفسكي دائما عندما يرسم المسلمات بثبات و تأنى و يتبع خطط مطولة لاقناع القارئ بها ثم يتلذذ بهدمها فوق روؤس الجميع و هو عندما يفعل ذلك لا يهدم هدم تام صريح بل يكتفي بازاحة حجز ما صغير فى قاع الصرح و يشاهد التأرجح و فى سباق غير محسوم النهاية ان كانت قوة الصرح ستكفي لاستقرار قلق مؤقت ام ان الهدم الازلى قادم بلا هوادة و هو يثبت ربما فى حد ذاته لماذا ابتعد الاديب الروسي عن نمطية المؤلفين التى غرقنا بها حتى الانوف
***************
و يصنع مفهوم "القوة الغامضة الخفية الكامنة في افراد ال كارامازوف" التى تشتد حتى فى اليوشا المؤمن البسيط الذى اصبح يشك ان روح الله ذاتها تحلق فوقها ... ظمأ مسعور للحياة , حب حار للحب ذاته , قوة جاذبة مركزية قوية في كوكبهم السيار هذا
و لسبب ما اقتصر دوستويفسكي تلك القوة على الذكور فقط فتخلص من الاناث اما بالموت او الجنون و الهستريا و تمت ازالة كل عامل نسائى , وكأن الامومة لا تليق بال كارمازوف فكان كل عمق فى ذكور العمل يقابلها بلادة و بلاهة مقصودة لحد جعل دوستويفسكي يرسم حدود "الانسان" و مشاكله على نموذج الرجل فقط
**************
من اين يبدأ دوستويفسكي و اين ينتهى فى قصته؟ سؤال يهم الناقد اكثر مما يهم القارئ لكننا نرى ان روح الروسي العبقرى وسعت و تناقضت كفاية لان نرى اجزاء منه فى معظم شخصيات العمل فالحاده هو ايفان و ايمانه هو زوسيما و شكه هو اليوشا و غضبه هو ديمترى و حبه للحياة هو فيدور
و هو يصدم القارئ حين يتغلغل فى الالحاد فى صفحات تطول و تطول و تصل الى ذروتها فى فصل "المفتش العام" القصة شبه المنفصلة عن الرواية حين يروى على لسان ايفان قصة قصيرة كاملة خيالية عن المسيح حين يقرر ان يزور الارض فتعتقله محاكم التفتيش المسيحية , يصدم القارئ المتدين لدرجة ربما تدفعه لهجر العمل و اعلان ان دوستويفسكي معادى للدين لدرجة لا يتحملها
و يصدم القارئ اكثر عندما يفرد اكثر من مئة صفحة على لسان الراهب زوسيما تمتلأ باحاديث ايمان مسيحية كثيفة العدد و كثيرة الحرارة و شديدة التقليدية , تصدم القارئ "العلمانى" لدرجة قد تدفعه لترك العمل و اعلان نفس الدوستويفسكي محب للدين التقليدى بشكل لا يحتمل
و بين التبادل الحر بين الشك و الايمان يتأرجح و نتأرجح معه
**************
أمويد دوستويفسكي للحرية ام يعتبرها عبء ثقيل تنوء به الانسانية؟ ايضا سؤال سيكتفي العبقرى الروسي ان يجعلنا نطرحه دون اجابه واضحة كغيره من الاسئلة العالقة
الحرية هبه ام لعنه؟...هل سنكون اكثر سعادة حين نبحث بانفسنا؟ ام حين نضع حريتنا المعلونة تلك على اقدام محاكم التفتيش و نتوسل ان رجع الى العبودية المريحة التى تمنعنا ان نقتل بعضنا البعض؟... أنحن ظمأى الى الايمان بالله ان مشتاقين فقط للمعجزات؟ ... عندما نوضع فى الاختبار الكبير سنختار خبر الارض الفانى الملموس ام وعد بخبر سماوى لا نهائى منتظر؟... أحقا يقوم الايمان على ثالثوث "المعجزة , السر , الهيبة"؟ و هل الايمان الفردى يصلح دعامة لاقامة مجتمع ام ان المؤسسة التى تقولب لنا الكون الزامية الى هذا الحد؟ ... هل يمكن ان نمنح الحرية الفكرية دون ان ندمر انفسنا؟ و لم كل مرة نحظى فيها بحريتنا نهرع لبناء برج بابل يطاول السماء؟ ... هل تحملنا الاديان عبء سمو لن نصله ابدا فنتهى للقلق النفسي و حسب؟... الانسان وضيع ضعيف؟ ام جبار متعنت؟ ام قادر على حمل صليب حريته على كتفه و الصعود الى جبل الجلجثة دون ان يطرف له رمش؟
***************
من الصعب جدا ان تحوى "رواية" بمفهومها التقليدى تلك الجرعة المكثفة من الافكار الفلسفية و العجيب حقا ان دوستويفسكي قادر ان يطرح كل تلك القضايا دون ان يتأثر ايقاع العمل الدرامى و تطور الاحداث و هى احد اهم الامثلة على اتساع قدرة القالب الروائى على استيعاب اشكال الكتابة الاخرى
فيجعلنا نهرول الى المجلد الثالث بنفس حماسنا للمجلد الاول و قد يزيد
دينا نبيل
فجر 30 اكتوبر 2015