هذه الحكايات لطيفةٌ كزمن قراءتها، عذبةٌ ككلماتها، وخفيفة الظّلّ كروح صاحبها. استمتعتُ وأنا أنتقل بين حكايةٍ وأخرى كمن ينتقل في روض الورود بين ياسمينة وفُلّة، وكمن يشربُ من نهرٍ كلّما اغترف غُرفةً بيده أحسًّ أنه ارتوى فازداد عطشًا.
كلّ حكايةٍ لها حكاية، لها رمزيّة تكثّف الفكرة والمعنى من ورائها، فعلى سبيل المثال حكاية (أصفر) تُوحي إليكَ أنّ كلّ شيءٍ في الحياة وُجِدَ بسبب ولسبب، وأنّ كلّ الموجودات لها دورٌ في الحياة من الجماد إلى الحيوان إلى الشّجر وانتهاءً بالإنسان. وحكاية (ورد وياسمين) تقول لك إنّ كلّ شيءٍ سينتهي ولا فرق بين المظهر الّذي كان عليه هذا الشّيء، فالكاتب يقول في نهايتها: "حيثُ رقدت الوُرَيقات البُنّيّة الذّابلة الّتي لم تكنْ تعرف على وجه اليقين إنْ كانت من الياسَمين الأبيض أم من الورد الأحمر".
أمّا في حكاية (ابن الحدّاد) فيريد الكاتب أن يقول لكَ : اتْبَعْ بوصلةَ قلبك في حياتك وعملك، ولا تهتمّ بما كان عليه آباؤكَ وأجدادُكَ من قبلُ، وكأنّه يسحب ذلك على الدّين فينعى على أولئك الّذين نعى القرآن عليهم موقفهم حين قال على لسانهم: "إنّا وجدْنا آباءَنا على أمّةٍ وإنّا على آثارهم مُهتَدون". إنّ الكاتب في هذه الحكاية يدعو كلّ واحدٍ إلى أن يُصغي إلى صوته الدّاخليّ ويعمل بمقتضاه وهذه حِكمةٌ بالِغةٌ.
أمّا في حكاية (السّنجاب) فقد شخّص الكاتب الظّلّ وجسّده وأعطاه رمزيّة حينَ قال فيه: "الظّلّ. إنّه يقترب من غابتكم. وهو ليس كالظّلال. إنّه حيٌّ يُفكّر. ولا يُريد سِوى النّموّ بالتِهام المزيد من هذا العالَم". وبعد هذا القول مباشرة عرض المشكلة ثمّ أردفها بالحلّ في قوله: "إنْ أتاكم الظّلّ - وسوف يفعل ذلك قريبًا - فاحمِلوا المشاعل. ولينشرْ كُلٌّ منكم النّور في مكانه. بتلك الطّريقة فقط يُمكنكم أن تُوقِفوا مَدّه". ويختم الحكاية بقوله: "من أجل ما هو أكبر". وكأنّه يريد أن يقول لكلّ واحدٍ منّا: لا تتخلّ أيّها الإنسانُ عن دوركَ حتّى ولو ظننتَ أنّه قد فاتَ الأوان.
أمّا في حكاية (الحبّار) فأوقفنا الكاتب على رمزيّة جميلة حينَ قال: "هناك صداقةٌ حقيقيّةٌ بينَ الجميل القويّ والقبيح الضّعيف" وكأنّه يرى أو يُريدنا أن نرى معه أنّ الصّداقة الحقيقيّة كفيلةٌ بإزالة كلّ الحواجز.
أمّا في حكاية (الولد والبحر) فقد عرّى الكاتب النّفس البشريّةالّتي تنظر إلى الموقف من زاويتها الخاصّة وتفسّر الأمر على هواها وتبني عليه أحكامًا مرتبطةً بنفسيّتها، فاختلاف النّاس في وجهة النّظر إلى الأمر الواحد هو مرضٌ وصِحّة في الوقتِ نفسه؛ مرضٌ لأنّه يُمكن أن يكون بعيدًا عن الموضوعيّة في التّناول، وصِحّة لأنّه اختِلافٌ تقتضيه الطّبيعة البشريّة الّتي قد تختلف أحيانًا مع نفسها، وقد ترى في الأمر الواحدِ اليوم رأيًا وتُخالِفه غدًا!!
أمّا في حكاياه القصيرة، فقد جاءتْ جُمَلُه مُكثّفة اختزلتِ الصّفحات الطِّوال في عباراتِ قصيرة؛ انظر إليه كيفَ يُصوّر الحياة الّتي تقوم عليها أسرة أو كِيان أو حتّى مُجتَمعات حينَ يقول في (فرصة): "لمْ يُحِبَّها حقًّا، فقط شعر أنّها مُناسِبة إلى حَدٍّ كبير. لم تُحِبَّه يومًا، فقط شعرتْ أنّه فرصةٌ لا ينبغي أن تضيع".
وكم ترك الكاتب أسئلة مُعلّقةً تدور في أذهاننا عمّا حدث بعد عبارةٍ أخيرةٍ له لكي يترك الفضاء مُطلَقًا على تخيّل الإجابة؛ مثل هذا الأسلوب استخدمه الكاتب في (قطاران)إذ ختمها بقوله: "يقول مَنْ شَهِدَ الحكايةَ إنّه لم يفتحْهما حتّى توقّف القِطار".
وإذا أردتَ أيّها القارِئ أنْ تعرف كيفَ أنّ(البلاء مُوكّلٌ بالمنطق) فعليكَ أن تقرأ (حجر). وأمّا إذا أردتَ أن تعرف كيفَ يُمسِكُ الكاتب عدسة التّصوير ويطوف بها على المشاهد فتظهر أمامك كأنّها فلم سينمائيّ فاقرأ (خِفّة) لترى خِفة المشهد وجماليّته وقُربه منكَ في آنٍ معًا. وأمّا إذا أردتَ أن تعرف مدى حُبّ الكاتب لأستاذ الأجيال نجيب محفوظ فاقرأ له في هذه الحكايا (حديث اللّيل والفجر).
بقي أن أقول أيّها القارئ اخرُجْ قليلاً من صخب الحياة ومن اللّهاث خلف اللاّشيء وأعطِ نفسكَ فرصةً ثمينة لتستمتع بـ (حكايات بعد النوم) لمبدعها أحمد الديب.