كنت أعرف جيداً ما الذي سوف ينهار ويسقط ، لكني لم أكن أعرف ماذا سوف يُبنى فوق هذه الأنقاض ، فلا أحد بوسعه أن يعرف هذا معرفة اليقين ، هذا ما طفقت أفكر فيه ، الماضي العتيق موجود فنحن نعيشه ونصارعه كل لحظة ، أما المستقبل فلم يولد بعد وغير ملموس ، متدفق ينثال وهو مصنوع من مادة تصاغ منها الأحلام ، إنه سحابة تتقاذفها الرياح العتيقة والعشق والخيال ، غنه يتباعد ويتقارب ليصبح كثيفًا ، ويتغير دومًا ، فطالما نرفل ونرفع في السعادة لا نحس بمشكلة أو سعادة ، فقط حينما يمربنا الزمن ونتطلع خلفنا ، ندرك بغتة وأحيانًا ندرك هذا بما يشبه المفاجأة ، أننا كنا محظوظين .
الحب و الكره ، التعلق و الفراق ، الرزانة والعبثية ، الحضور والغياب ، الهدوء والجنون ، كل تلك المتناقضات تحدث عنها كزانتزاكيس هنا ، واستطاع أن يصبها في تلك الشخصية التي نسجها من وحي خياله ، أو حتى لو أنها شخصية عابرة من بين تلك الشخصيات الذين مروا به ، وتركوا فيه أثرًا يظهر له طيفهم من حين لآخر ، استطاع أن يعبر من خلال " زوربا " عن تلك الأفكار التي لم تتح له الظروف أن يعبر عنها ، استطاع أن يدخل به إلى تلك المناطق الخطرة التي تنكسر فيها كل التابوهات الفكرية أو حتى المعتقدات الدينية – وإن كان هذا من ضمن ما أخذته على الكاتب - .
دركت أن زوربا هو هذا الإنسان الذي كنت زمنًا طويلًا أبحث عنه ولا أعثر عليه : إنه قلب نابض بالحياة , وحنجرة دافئة , ونفسُعظيمة برية على طبيعتها , لم ينقطع الحبل السري بعد بينها وبين أمها الأرض , ما هو جوهر الفن ؟ أليس هو عشق الجمال ؟ أليس هو الطهارة والعاطفة الجامحة؟ ... إن هذا العمل (البسيط) قد فسر لي هذا الجوهر , وأوضحه من خلال كلماته البسيطة التي تنضح بالإنسانية.
يؤكد المؤلف هنا على فكرة أن هذا العالم على ما فيه لا زال فيه بعض الفطرية التي لم تتوشه بتلونات البشر ولم يعبث بها الحاضر ، لأنهم جعلوا ما بينهم وبين كل ما يمت للحاضر بصلة حدًا فاصلاً ، وتعاملوا معه كما لو كان شيئًا بعيدًا عن عالمهم ، يعيشون فيه ولا يعيشون ، لا يخضعون لسطوته ، لا يسمحون له أن يترك فيه بشاعته .
أحببت فطرية زوربا التي كانت تنطلق منها كلمات غاية في العذوبة تنهال على عقل القارئ النهم بانسيابية ، فيقول عنه كزانتزاكيس : كان هذا الكريتي مماثلا للنثر الجيد : صياغته محبوكة , موجز فى كلمات قليلة , متحرر من الثراء اللفظي والطنطنة التي لا ضرورة لها , قوي متماسك . كما أن صياغته لجوهر الأشياء تتم بأيسر الوسائل, ليس به تلاعب ولا حذلقة , ولا يميل لاستخدام حيل بعينها ولا يلجأ إلى البلاغة والمحسنات البديعية , إنه يقول ما يريد قوله بصلابة رجولية, ولكن وسط ذلك كله تجد اللطف والوداعة والرقة غير المتوقعة , ففي الأخاديد والتجاويف المحجوبة عن الرياح , كان يتضوع أريج أشجار الليمون والبرتقال, وعلى مبعدة من البحر الممتد الشاسع كانت تنثال أشعار لا ينضب لها معين .
الأحداث التي قد تبدو غريبة وغير مألوفة هي أدعى الأحداث إلفاتًا للنظر ، خصوصًا لو كانت هي الأخرى في أوقات تستدعي حدًا معينًا وشكلاً معينًا من الأفعال ، فتأتي تلك الأحداث الغريبة لتكون بمثابة خرق لحدود العادة
مثلاً زوربا في أكثر المواقف التي قد يبدو فيها حانق وغاضب ،تجده فجأة ينسلّ من تلك الحالة ليدخل في حالة جديدة من المرح والخفة ، زوربا وهو يرقص بحركات بطيئة تتسارع تدريجياً على نغمات البوزوكي، ثم تشتد وتعلو لتنفجر في فورة من الوثب والقفز. عندئذ، تدوي في رأسه كلماته: إذا طافت الدنيا بالهموم، عليك بالرقص! ارقص! مجنون هذا العجوز حتى يواجه مصاعب الحياة وبؤسها بالرقص! ربما.. يمكن أنه فيلسوف حكيم.
لم يعجبني في زوربا تلك الشخصية الحيوانية التي كان يجابه بها الحياة وإيمانه بان تلك الطريقة هي الطريقة الوحيدة التي لابد وأن يعيش بها الإنسان ، في حين يؤمن بحتمية وجود الحرية ، ليست الحرية بمفهومها الضيق الخاص باستقلالية الإنسان عن الدولة ، بل بحرية انعتاق الجسد من الشهوات والرغبات العارمة ، وأن يمتثل الإنسان طائعًا لشئ يماي ونبيل ، وأن يكف الإنسان عن التمني والتعلق بأهداب الامل الكاذب .
من ضمن المفارقات أيضًا ، هو علاقة زوربا بالمرأة ، فمرة تجده يقف إلى جانبه مؤكدًا أنها كائن لا يجب أن يحمل باعباء مثل الرجل ، ولو كان الأمر بيده لما ألزمها بشئ ، لأنها كائن ضيف ، ومرة أخرى بأنها كائن مستغلق عصي عن الفهم وأنه لابد أن يكون الإنسان حذراً منهم ، ونظرته إلى المرأة على أنها أداة جنسية فقط ، عازفًا عن الشئ الأسمى الذي لا بد وأن يتعلق بأهداب الرجل ناحية المرأة ، خاصة علاقته بمدام " أورتانس " التي أحبته ورغم ذلك لم تلق منه أي اهتمام ، حتى عندما أحضرت له دبلة ، لبسها لها على مضض ، وكان الدافع وراء ذلك هو أحساسه بالشفقة عليها ليس إلا .
فكرة الخلاص في رأي زوربا ، أحسستها عبثية ومضحكة ، وهو أن يتعلق الإنسان بالشئ حد الإفراط حتى يصل الإنسان بشكل تلقائي إلى أن يتخلص منها ، أضرب مثالاً أظنه سيوضح الفكرة أكثر ، وهو ما قاله العلماء مؤخرا عن مسألة تتعل ببمارسة العادة السرية ، فالإنسان يقوم بها في حياته آلاف بل عشرات الآلاف أو يزيد على مدار حياته ، ورغم ذلك في كل مرة يقوم بها كما لو كانت تجربة جديدة وذلك بدافع الهاجس الأول ، إذا ففكرة الخلاص تلك ليست صحيحة ، الخلاص لابد وأن يخضع لقوة ذاتئة يحاول أن يتغلب فيها الإنسان على نفسه ، والدليل أن زوربا مارس كل شئ حيواني على مدار حياته ولم يقلع عنه ، ومثال اقلاعه عن أكل الكرز أظنه واهي ، لأنه مثال لا علاقة له بشئ يمثل حاجة من حاجاته الأساسية .
" زوربا رحل مثل الأفراس وأقفًا وأبى أن يأتيه الموت " في الحقيقة أن زوربا رحل مثل الأفراس وآتاه الموت لكنه لم يستطع التغلب عليه والدليل أنه مات .