يعتبر هذا الكتاب واحداً من أشهر الكتب التي تناولت موضوع الحب عبر التاريخ. وقد اكتسب شهرةً واسعة وتُرجم إلى عدة لغات في المشرق والمغرب. ألفه ابن حزم الأندلسي - أحد أشهر علماء وفقهاء عصره في الأندلس - قبل حوالي ألف عام نزولاً عند رغبة صديقٍ محب طلب منه أن يصنف له "رسالةً في صفة الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة". وهذا يدفع إلى أذهاننا التساؤل الأول: هل من الممكن فعلاً أن يُعرّف الحب وتُقسّم معانيه وأعراضه وأنواعه والمشاعر المتعلقة به وأن يصنف في كتابٍ أو رسالة؟
بالرغم من غرابة الفكرة فقد انتهج ابن حزم منهجاً علمياً بحثياً في تقسيم الرسالة. حيث عمد إلى تقسيمها إلى ثلاثين باباً: عشرةٍ في أصول الحب، واثني عشر باباً في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وستةٍ في الآفات الداخلة على الحب، واختتمها ببابين تحدث فيهما عن قبح المعصية وفضل التعفف.
في أصل تسمية الكتاب آراءٌ واجتهادات. أبرزها أن يكون الاسم مبنياً على فكرة الديمومة والثبات؛ كقول العرب: "أبقى من طوق الحمام". أو أنه يحمل دليلاً على معاني الزينة والحلية واستلهام الجمال الذي هو مثار الحب. أو - بكلِّ بساطةٍ ممكنة - أن الحمامة هي رسول الحب والهوى، والطوق حليتها وزينتها، أو الأمانة المعقودة في عنقها لحملها من العاشق إلى المحبوب.
تستهل الرسالة بوصف الحب وتعريفه: "الحبُّ -أعزك الله - أوله هزلٌ وآخره جد، دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكرٍ في الديانة ولا بمحظورٍ في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزَّ وجل".
ويكفينا هذا الاقتباس لملاحظة النزعة الدينية والقالب العقلاني الذي طغى على غير موضعٍ في هذه الرسالة. ولنا أن نسأل إن كان ذلك نابعاً من خلفية ابن حزم وفكره الديني، أو من حقيقة أنه كتب الرسالة رداً على طلبٍ من صديق؛ وبالتالي فقد كانت أشبه بالتوثيق والتوصيف العلمي، وأنها لو كُتبت في فترة أطول وفي وقتٍ مختلف من حياة ابن حزم لكان محتواها أو طريقة عرضها اختلفت عن المضمون الحالي.
أصل الحب عند ابن حزم "اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع"؛ وهو يرى أن المحبة ضروب: محبة المتحابين في الله عزوجل، ومحبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسرٍّ يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة، ومحبة العشق التي لا علّة لها إلا اتصال النفوس، والتي في رأيه هي المحبة الوحيدة التي لا تفنى ولا تزيد ولا تنقص كأنواع المحبة الأخرى.
يعتمد الكتاب على قصصٍ وأخبارٍ شهدها ابن حزم أو نُقلت إليه. ذلك أنه قد تربى في بيئةٍ تزخر بالنساء والجواري وهنَّ من علّمنه وأدّبنه فكان أن اطلع على الكثير من أسرارهنَّ والخبايا المتعلقة بهن. وهو إلى ذلك يزخر بالكثير من الأبيات الشعرية التي صاغها ابن حزم شواهد على فكرةٍ أو معنىً أو قصةٍ ذكرها. والأخبار في الرسالة تجمع بين المتعة والتعرف على المجتمع الأندلسي في عصره، والدهشة كذلك؛ كقصة فتىً أحب جاريةً في منامه، وذهب قلبه ولبّه وهام بها! وأصبح في حياته مغموماً مهموماً من حبه الذي عرض له في المنام!
ولعل أكثر أفكار الكتاب جدليةً، هو ما ذكره ابن حزم من أن الحب لا يكون إلا مرةً واحدة، ولحبيبٍ واحد. وهو يرفض فكرة أن يحب المرء اثنين، أو يعشق شخصين متغايرين. ويعتبر أن هذا لا يتعدى أن يكون شهوةً تسمى محبةً على المجاز لا على التحقيق. "وأما نفس الحب فما في المُبتلى به فضلٌ يصرفه في أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحبٍّ ثان؟!" - وفي ذلك يقول:
كذب المدعي هوى اثنين حتماً - مثل ما في الأصول أُكذب ماني*
ليس في القلب موضعٌ لحبيبين - ولا أحدث الأمور اثنان
فكما العقل واحدٌ ليس يدري - خالقاً غير واحدٍ رحمان
فكذا القلب واحدٌ. ليس يهوى - غير فردٍ مباعدٍ أو مُدانِ
هو في شرعة المودة ذو شركٍ - بعيدٌ من صحة الإيمان
وكذا الدين واحدٌ مستقيمٌ - وكَفورٌ من عنده دينان
---------------
(*ماني: متنبىء فارسي، مؤسس مذهب المانوية، عقيدته قوامها الصراع بين النور والظلام).
يراوح ابن حزم في الطوق بين الأفكار الشاعرية الحالمة المثالية، التي قد نستهجنها أو نستبعد وقوعها في زمننا، وبين الأفكار الواقعية الي تبقى لصيقة الحب في كل زمانٍ ومكان؛ كالذي ورد في باب المساعد من الإخوان، وباب الرقيب، والواشي، والوصل، والهجر، والوفاء والغدر. مختتماً الرسالة ببابين في قبح المعصية وفضل التعفف مؤكداً، لعله، على نزعته الدينية وعلى منهجه الفقهي.
يبقى أن نقول أن طوق الحمامة هو رسالة قيمة وكتاب فريد في الموضوع الذي تطرق إليه وعالجه. اتفقتَ مع ما ورد فيه أو خالفته، فهو يظل بالتأكيد كتاباً لا يخلو من المتعة والفائدة والأخبار العجيبة عن الحب والمحبين في المجتمع الأندلسي على وجه الخصوص، وفي سائر الأمكنة والأزمنة على العموم.