قال فيما نحن نشد نفسين من الحشيش في غرزة في مسطاح النيل: المهم يا أبو علي أن يكون ما صرفته على داركم فلوسا حلالا. فشوحت له بيدي قائلا: دعك من مسألة الحلال و الحرام هذه يا خوي. فواحق مخرج الصباح من الليل و مشرق الشمس أن البلدة كلها تعيش حراما في حرام. و سحتا في سحت. و نهبا في نهب. و بلطجة في بلطجة و تهليبا في تهليب. صدقني يا خوي. حاميها حراميها يا خوي. صرت اعتقد أن الله لا يبارك إلا في الحرام. و يحمي أهل الحرام و يرفع قدرهم في الدنيا. صحيح أن الله سيعذبهم في الآخرة و لكن كيف أعيش أنا في الدنيا طاهرا من الخطيئة معدما من القوت في نفس الوقت؟ سأفوز بالآخرة؟ مت يا حمار حتى يجيئك العليق. عقلي الصعيدي لا يفهم كيف يحرمني الله في الحياة من نسمة الدنيا و يمتع غيري بالجنة؟ إنك يا هليّل يا خوي لو شفت الحياة التي يعيشها ناس مصر المحروسة لوقعت من طولك ميتا. اسكت يا هليل يا خوي فقد أصبحت و الله أكره الكلام في شغلة الحرام و الحلال هذه! أكره أيضا شغلة الثورة هذه و أتمنى زوالها من الوجود! حتى أبو عبدالناصر نفسه بلدينا نفسه صرت لا أحبه! صار قلبي ينزعج كلما سمعت اسمه! دعنا يا هليل نعيش لنا يومين قبلما تأكلنا الذئاب. إذا كنت تعيش بين اللصوص و الحرامية فلابد أن تكون أحرف منهم حتى تعيش بينهم.
و عرفت كذلك أن حياة المدينة قد سحرتني و فتحت مخي. و فيها متسع كبير لأن يسرق الجميع الجميع. و لما كان من المستحيل أن تقبض الحكومة على الجميع فإن الجميع يعمي عينه عن الجميع و يطرمخ عليه.
حقا حقا هذه مصر أم العجائب يا خال و لن أمل من تكرارها. هذا و الله ليس مثلا يقصد به التندر و لا هو من قبيل الهتافات و العصبية. فلو قدر لك أن ترى ما رآه العبد لله و تشقى شقاءه و تعرف ما عرف. لأيقنت أنه قرينة صدق لا يجيئها الباطل من أي مكان فيها. و الحاج السني أحد هذه العجائب يا خال. إذا قدر لك نزول هذه البلد لا تنسى أن تمر عليه و تتفرج. دعك من الأهرامات و أبي الهول و سقارة. بل دعك من البطلمي و القبطي. و الإسلامي و المملوكي و كل ما تلوكه ألسن المرشدين السياحيين. و انظر في عجيبة الحاج السني وحدها. ففيها – أقصد فيه – كل الأزمنة و الأنتيكات. عافاه الله و أعطاه طول العمر حتى يتمكن من مص كل ما في العروق من دم. و ما في الأرض من رحيق و ما في السماء من ماء. و ما في الجو من هواء.
شف يا خال. خذها من العبد الفقير إلى ربه تعالى حسن أبو ضب: هناك مصران يا ولد العم لا مصر واحدة. مصر الصعيد و الوجه البحري. و مصر القاهرة وحدها. شف يا خال: لست متعلما و إن كان أعمامي من الفقهاء النبهاء. إنما أستطيع أن أقول لك بالفم المليان أن مصر كنانة الله التي ورد ذكرها في كتابه العزيز هي الصعيد و الوجه البحري. هي مصر ذلك الزمان. التي تعهد الله بحمايتها من كل شر و خراب و من كل معتد أثيم. أما مصر القاهرة هذه استعنت عليها بالله أن تجيئها شوطة تأخذها إلى غير رجعة بكل ما و من فيها.؟ و أن يجري الزمان بقيام عاصمة جديدة فيها عالم نظيف طاهر اليد.
إسمع كلامي يا بوي و صدقني أن اللص في مصر القاهرة هو السيد الحقيقي مهما تفه شأنه و قل نفعه. و الكل يسرق على قد حجمه و مركزه يا بوي. هو و شطارته. و لربما يقع في قبضة الحكومة كل يوم. و يمثل أمام المحاكم كل أسبوع. و كل ذلك يصبح رياضة و نزهة يقوم بها. فهو واثق أن الدينار سيد الأخلاق. إفعل ما بدا لك في هذه البلاد يا بوي. فأنت لن تستطيع رؤية الدينار و هو يغادر يد الفاعل داخلا في ذمة الحارس. أحلف اليمين يا خال أنهم قوم يشجعون اللص و ينفخونه و يمكنونه من كل المنافذ حتى يتمكن منهم أنفسهم و يمص دمهم بصنعة لطافه أو بخشونة العافية. و يا حلاوة اللص في نظرهم لو كان ظريفا! إنه و الله ليوشك أن يكون نبيا بينهم.
فأهل هذه البلدة جميعهم من كبيرهم إلى صغيرهم يسرقون بشكل أو بآخر. كلهم يتبرأون من الحرامية في سبيل أن يكونوا من كبار كبار الحرامية. فالحرامي البسيط هو نحن. حرامي يعرف أنه حرامي. و يسرق من وراء ستار حتى و إن كنا في الليل. أما الحرامي المركب فأجارك الله منه. لا يعرف أنه حرامي! لكن يعرف فقط كيف يتبرأ من الحرامية! كيف يرسم صورة الرجل الشريف! كيف يعلن على الناس حجه كلما مر على مكة تاجرا ناهبا. و كلما كثر عدد الشرفاء من هذا النوع كلما كان ذلك دليلا على أن عدد الحرامية في البر يتزايد و السرقات على ودنه.كل واحد في هذه البلدة حرامي على طريقته الخاصة. و كل واحد يخدع الأخر ليسرقه على راحته.
و هذا فقط هو ما وقفنا عليه من سيرة أبي ضب في الجزء الثاني من ثلاثية الأمالي بعد ما قرأت الجزء الأول أولنا ولد و يتبقى الجزء الثالث و ثالثنا الورق