لم ينم مدمن المخدرات "صلاح" طوال الليل، وأخذ يفكر في كل ما مر به، وبتلقائية يجد نفسه يدعو "يا رب.. يا رب.. يا رب ساعدني"، وبعد قليل يسمع أذان الفجر فيقول كما في صفحة 491: "ياه!! أول مرة أسمع أذان الفجر بهذا الجمال.. أول مرة أركّز في كلمة تقال.. خيل إلي أنه ليس بأذان الفجر.. وتخيلت أن الله سبحانه وتعالى يرد علي: أنا موجود"..
إذا كنت تتوقع أن الأمور بهذه البساطة وأن مجرد الاستماع إلى الأذان سيحل مشكلة معقدة كمشكلة الإدمان فاستعد لأن تتلقى رواية سوف تصدمك بشدة في آراء استقرت لدينا دون أن نفكر فيها. فلماذا لدينا مدينة الألف مئذنة ولدينا آلاف المؤذنين ومع ذلك تزداد مشاكلنا ولا يحل منها أي شيء برغم أننا نسمع الأذان مرات ومرات كل يوم؟
رواية "ربع جرام" لمؤلفها "عصام يوسف" ليست رواية عادية، فقد حققت نجاحا لافتا على مستوى المبيعات رغم سعرها المرتفع. وهي أيضا ليست مجرد أحداث خيالية بل هي قصة حقيقية تقريبا وأبطالها لا يزالون على قيد الحياة وإن كان المؤلف حريصا على إخفاء شخصياتهم حرصا على خصوصياتهم بالطبع.
الشخصية المحورية هنا هي "صلاح" وهو صديق للمؤلف كان قد حكى له تفاصيل هذه القصة طالبا منه توصيلها للناس.. ويتطوع المؤلف لنقل الرسالة ولكنه يختار لها قالبا أدبيا وهو الرواية، فتستغرق منه أكثر من سنتين لتخرج في ما يزيد عن 600 صفحة. والرسالة تتعلق بموضوع مسكوت عنه هو المخدرات. فالإحصائيات الرسمية تقول إن في مصر وحدها 6 مليون مدمن، وهذا يعني أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر من هذا بكثير. وإذا لم تكن عزيزي القارئ مدمنا ففي أقاربك مدمن أو في جيرانك أو عملك أو شارعك. ولهذا فإن معرفتنا بعالم الإدمان ليست مجرد رفاهية ثقافية بل هي ضرورة لفهم واقع موجود من حولنا لكننا ربما نجهله أو نتجاهله.
المدمن مريض
يمكن أن نقول أن الأمر بدأ مع "صلاح" وأصدقائه عندما جاء "بهاء" الملقب بـ "بونو" في إحدى الليالي ومعه ربع جرام من البودرة (الهيروين) على سبيل التجربة. ولكن الموضوع له بداية قبل ذلك بكثير، فأسرة "صلاح" ساعدته على الوقوع في الإدمان دون أن تدري. فالأب مهندس مشغول بمشاريعه وهو نموذج متميز للأب الناجح في عمله، الفاشل في رعاية أسرته. فلم يدرك أن ابنه قد أصبح مدمنا إلا بعد عشر سنوات من تعاطي الهيروين و15 سنة من تعاطي الحشيش والخمور!
وفي بيت "صلاح" كان هناك بار، وكان من المسموح له وهو طفل أن يشرب بعضا من البيرة. وكان هو يستولي على "الويسكي" والسيجار بحيل طفولية بسيطة. وكانت الأموال متاحة دائما في يد الصغير، بلا حساب أو رقابة. كانت كل الظروف مهيأة له لكي يسقط بعد ذلك بسنوات قليلة في قاع الإدمان. مدفوعا بإهمال أسرته وصحبة مراهقين مهووسين بالفضول.
ليس هذا فحسب، بل هناك أيادٍ أخرى تدخلت في الإيقاع بـ"صلاح". يمكنك أن تستنج من وراءها بسهولة إذا لاحظت أن أسعار كل شيء في مصر ترتفع ما عدا المخدرات، فهي تنخفض بشدة. وجودة كل المنتجات في مصر تنهار، ما عدا المخدرات فالأصناف تزداد "جودة" وتأثيرا. لا داعي للتفكير كثيرا فقد أجابت الرواية عن ذلك السر بكل وضوح في صفحة 390:
“مشيت أنا و"حسام" بعد أن اشترينا.. فقلت لـ"حسام":
• إنت عارف يا "حسام" إيه الحكاية؟
• إيه الحكاية يا معلم؟
• البودرة دي بودرة صهاينة.. البودرة دي من إسرائيل.
• إسرائيل إيه يا عم أنت؟
• اسمع بس اللي باقول لك عليه.. البودرة دي نزلت البلد بالكميات دي، وبالرخص ده علشان الشباب يضرب بيها.. إنت شايف الزحمة عند "غانم" النهارده كانت عاملة ازاي؟ اللي ما ضربش يضرب، واللي ضرب يضرب أكتر.. دي أرخص من الحشيش يا "حسام".
• يا ابن ".......”، جه في بالك الكلام ده ازاي؟
• مستحيل ينسوا حرب 73.. ضربناهم والنهارده بيردّوها لنا.. بيدمرونا وبيدمروا البلد.. دي حرب يا معلم"..
وقد صدق "صلاح" في تحليله، فبعد فترة تم القبض على "رامي" أحد أعضاء الشلة ومعه 12 جراما. و"رامي" والده لواء في الجيش خاض أكثر من حرب وعاد منها بطلا، لكنه انهزم أمام حرب المخدرات، وقد حاول مع ابنه أكثر من مرة ليتوقف عن الإدمان، ولكنه حين بلغه نبأ القبض على ولده ومعه كل هذه الكمية، أي أنها قضية اتجار وليس مجرد تعاطٍ، لم يتحمل قلبه هذه الصدمة ومات بعد 48 ساعة في لحظة مؤثرة من الرواية.
اللهم امنحني السكينة
لا تتحدث الرواية عن طريقة الوقاية من الوقوع في الإدمان، بل تتعامل مع المدمن كضحية يمكن علاجها. والجميل في الأمر أن ما ينطبق على إدمان المخدرات ينطبق بشكل ما أيضا على باقي أنواع الإدمان كإدمان الطعام أو الجنس أو القمار أو حتى إدمان الشيكولاته! إذا كان مدمن المخدرات يستطيع أن يتوقف عن تعاطيها فأنت أيضا يمكنك أن تتخلص من عاداتك السيئة إذا اتبعت نفس المنهج.
هناك خطوات معروفة ومجربة للعلاج من إدمان الخمور والمخدرات وهي تتبع برنامج "زمالة المدمنين المجهولين”. المشكلة هي أن الكثيرين لم يسمعوا عن هذا البرنامج، وهناك من عرفوه ولكنهم لم يلتزموا بقواعده الصارمة فلم يؤت نتائجه معهم. أما الذين طبقوا الخطوات الاثنتي عشرة كلها واستمروا عليها فقد تحقق لهم المراد وعادت حياتهم لطبيعتها.
وهذا ما حدث مع "صلاح" عندما أقنعه أحد أصدقائه بالاعتكاف في المسجد، وفي مرة أخرى عمل المستحيل حتى يسافر للحج لعله يتوقف عن التعاطي. وعاش أياما في جو ديني ممتاز ولكنه انتهى بمجرد انتهاء الشعائر ورؤيته لأحد المدمنين في مدينة جدة وعاد كما كان قبل بداية الحج وكأن شيئا لم يكن.
هنا أيضا فكرة مهمة، وهي فكرة السياق. فما نفعله في حياتنا يؤثر في سياقه أكثر مما يؤثر خارج السياق. بمعنى أن مدمن المخدرات إذا اعتكف في المسجد أربعة أيام فإن حادث الاعتكاف هو عارض على سياق الإدمان ولهذا لا يؤثر عليه كثيرا. وإذا أحضر مجموعة من غير المدمنين ربع جرام من البودرة وتناولوه مرة على سبيل التجربة فإن ما سيحدث لهم هو تعب وإعياء شديد ولكنهم إذا لم يعودوا لهذا التعاطي أبدا فإن هذا الحدث لن يؤثر في حياتهم لأنه خارج السياق. على عكس المؤمن المتدين الذي يزيده الاعتكاف إيمانا، والمدمن الذي يزيده التعاطي إدمانا.
طاقة حب
وما يحاول برنامج المدمنين المجهولين عمله هو ما يجب أن نحاول عمله دائما لحل مشاكلنا التي هي من نفس النوع: أن يخرج المرء من الجو العام الذي يجعل للأمور السيئة تأثيرا شديدا، إلى نظام آخر للحياة يجعل هذه الأمور إن حدثت -إذ لا سبيل لتجنبها تماما على أية حال- فإن تأثيرها يكون منعدما. لا يستطيع البرنامج أن يمنعك من رؤية المخدرات للأبد، لكنك بعد تطبيقه إن حدث أي موقف وتعرضت لها فإنك لن تتأثر ولن تعود متعاطيا. وإذا كانت هناك وسيلة للتخلص من إدمان شيء ما فهي ليست أن نبعد هذا الشيء عن عين المدمن ويده.. برغم أن هذا يبدو الحل الأسهل ولكنه لا يصلح للأسف.
ولأن هذا الانتقال لن يتم بلمسة سحرية فإن التعليمات يجب أن تتم بصبر شديد. فبعد أن بدأ "صلاح" في تطبيق البرنامج شكت فيه والدته ذات مرة عندما رأته مجهداً أن يكون عاد إلى التعاطي ولكن قواعد البرنامج كانت تقول له أن يتعامل مع الموقف بهدوء وأن يطلب منها أن تصحبه للتحليل لتتأكد من أنه لم يتعاطَ وأن ما يمر به هو إجهاد عادي؛ وذلك لأن بناء الثقة مرة أخرى في المدمن لن تأتي في يوم وليلة فقد انهدمت الثقة تماما ويجب بناؤها مرة أخرى بصبر وهدوء.
كما يجب ألا يتأثر المرء وهو يحاول تصحيح خطواته بالآراء السلبية التي تدفعه للتوقف، وخاصة لو جاءت من شخص يتمنى لك الخير وبحسن نية. ففي الرواية يقول الأب لابنه وقد رآه يتحسن بعد حضور اجتماعات زمالة المدمنين: "ما خلاص يا "صلاح".. كفاية اجتماعات وما تضيعش وقتك أكتر من كده". فالوالد لم يكتفِ بإهماله في التربية بل هو يدعو ابنه للإهمال في العلاج أيضا!
وفي الأيام التي قضاها "صلاح" في "سويسرا" (وهو الاسم الذي يطلقه المدمنون على المستشفى)، كان الأب يكتب يوميات هي من أضعف أجزاء الرواية أدبيا، وفيها ينسب حديثا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ذكاء المرء محسوب عليه" (ص571) والحقيقة أني لم أجد هذا الحديث في الكتب السبعة ولم أسمع به من قبل. وقد بحثت عنه على الإنترنت ولم أجد عليه دليلا أو أعثر على أصله. فضلا عن معناه الساذج إذ كيف يكون ذكاء المرء أمرا محسوبا عليه؟ لو كان هذا صحيحا لكان الشخص الغبي أفضل من الذكي. لعله يقصد أنه محاسب عليه وليس محسوبا عليه. وهناك أيضا معلومة غير دقيقة وردت على لسان "صلاح" حين كان عند الكعبة، فقد أخذ يتصور هذا المكان وتاريخه القديم وأن "أبرهة" كان هنا مع فيله! والواقع أن "أبرهة" لم يدخل مكة بالفيل أصلا ولكنه توقف عند حدودها ولم يطاوعه الفيل على الاقتراب أكثر من ذلك.
رواية كلها "ضرب" بدون أي شتائم
لغة الحوار في الرواية عامية وكثيرا ما تتخلل الرواية مصطلحات خاصة بعالم المخدرات فيضع المؤلف معناها في أسفل الصفحة. وإن كان الأصل في السرد هو الفصحى، والتي تمت مراجعتها بصورة جيدة. ومع حرص المؤلف على توضيح معاني الكلمات العامية أو الأجنبية حتى يفهمها القارئ العادي، إلا أن هناك كلمات عامية مصرية لم أفهمها تماما ولم يكن هناك شرح لها، ولكني استنتجتها من السياق؛ وذلك لأنها ليست مستخدمة في قاموسي ولا قاموس المحيطين بي، وهذه مشكلة الكتابة بالعامية.
أيضا هناك مسألة الشتائم، وهي موجودة في الحوار العادي بين الشباب المدمن وغير المدمن للأسف، ولم يكن من الممكن أن يتجنبها المؤلف ولا أن يذكرها كما هي. فلجأ إلى حيلة النقاط، فكلما جاءت في الحوار كلمة غير لائقة استبدلها بنقاط كما في كلام "حسام" المنقول أعلاه. وهكذا نجح المؤلف بذكاء من الهروب من فخ الابتذال وجعل الرواية صالحة لكل الأعمار من سن 8 سنوات حتى 88. كما هي مجلة "سمير" التي ترأست والدته الكاتبة "نُتيلة راشد" تحريرها لمدة أربعين عاما.
وقد أحسن المؤلف اختياره. فقد اجتمع الحوار العامي مع السرد البسيط الواضح ليحقق نجاحا ويجذب للكتاب قراء لم يكونوا يقرأون وإن قرأوا لا يقرأون باللغة العربية أصلا. كما أن الرسالة موجهة في الأساس إلى فئة معينة من الشباب، وليست عملا فنيا يهدف إلى تعجيز نقاد الأدب وإبهارهم بأساليبه وتصويراته وإمكانياته دون أن يكون هناك تواصل مع القارئ وهو المتلقي الحقيقي.
ولأن الرواية صادقة ودون تزويق أدبي مبالغ فيه فقد وصلت إلى عقل ووجدان القارئ الذي يجد نفسه يضحك مع الأبطال حين يأتي وقت الضحك.. وفي لحظات أخرى تقفز الدموع من عينيه حزنا وتأثرا.