اقتباسات خالد منصور

حوار صحفي في أوائل التسعينيات قالت الزيات: “تقدمت في السن وأدركت أنه ليس من السهل تغيير المجتمع، ولكن كل ما يمكن أن يطمح فيه الإنسان هو أن يغير نفسه”.

طالما لجأ إلى شوارع القاهرة الإسلامية ليُخفِّف من حِدَّة هجمات الاكتئاب المفاجئة يغرق في أشكالها وألوانها وروائحها حتى تُجبِرَه حواسُّه على الانتباه والتخلُّص من حجارة الحزن المصمَتَة التي تُغافِله وتربط نفسها بقدميه وقلبه ثم تشدُّه إلى قاعٍ يعرفه جيِّدًا، حيث تسجنه وحيدًا خلف جدران صمَّاء بلا نوافذ ودون باب. نظر إلى رَجُلَيْن وامرأة يُدخِّنون وهم جالسون على الرصيف، تستند ظهورهم إلى جدار سبيل ماء عثماني أُغلِقَت أبوابه للترميم منذ سنوات طويلة.

صارت حريتي مرتبطة بقدرتي على أن أحمل وطني في داخلي وأواصل علاقاتي الحميمية مع من أحب من البشر أينما كنت وحيثما كانوا، وعلى أن أعانق البهجة ولا أخاف من الحزن أو الموت. لم أضمر شرًا لأحد في هذه الحياة ولا أخشى عقابًا في جحيم ما بسبب أفعالي، كما لا أتطلع لنعيم دائم في جنة موعودة بفضل ما قمت به.

ولعل مدرسة الراهبات في المنيا كانت أفدح هذه المؤسسات أثرًا وأكثرها سلبية. كان والدي يعلم هذا تمامًا ولهذا كان يقول لنا إنه فضّل هذه المدرسة لأنها “تشكم البنات” بمعنى أنها تحطمهن أو تجعلهن يعشن حياة معدة لهن سلفًا داخل إطار معين.

كان للخوف دور مهم في طفولتي. مثاليتي وخوفي جعلاني لا أفهم كيف يمكن أن يتجاوز الشخص كل القواعد الاجتماعية التي بدت لي محروسة بقوى إلهية صارمة، ويرتكب أفعالًا ممنوعة، سواء كانت مجرَّمة قانونًا أو مستهجنة اجتماعيًّا.

وكنت أرتدي بلوزة بكم قصير فسألني المراقب: لمَ تبكين؟ ولما قلت له إن أستاذي مات، ابتسم قائلًا: وهل يلبس الحزين بلوزة نص كم؟

كانت الرهبنة بصورة ما في ذهني مخرجًا آمنًا. إذا أصبحت راهبة سأعيش وراء الأسوار، محمية ومصانة من أي اعتداءات محتملة وأيضًا محمية من الشعور بالذنب، حيث لن أضطر إلى التعامل كثيرًا مع الآخرين أو الوقوع فريسة إيذائهم.

قالت لي مرة: “الأرض والغِنى ممكن يتاخدوا من الواحد، وعشان البنات يقدروا يقولوا أيوة لما يكونوا عايزين يقولوا أيوة ويقولوا لأ لما يكونوا عايزين يقولوا لأ لازم يتعلموا”. وهكذا وقفت هي وجدتي في وجه أبي المعارض لتعليمنا، وتمكنّا من مواصلة الدراسة مثل الصبيان وهو أمر لم يكن شائعًا في المنيا في أربعينيات القرن العشرين.

وبدون التفكير في هذا القادم الأكيد ننسى الموت عادة، فيفعل الناس أشياء مجنونة أحيانًا لأنهم يعتقدون أنهم لا يقهرون، لا يموتون

ربما نسعى جميعًا لنكتب عن العالم ولكننا ننتهي بصورة ما أو بأخرى إلى الكتابة عن أنفسنا بنفس القدر.

وعشان البنات يقدروا يقولوا أيوة لما يكونوا عايزين يقولوا أيوة ويقولوا لأ لما يكونوا عايزين يقولوا لأ لازم يتعلموا”.

طالما كانت بلادة المشاعر سبيلي اللاواعي في الدفاع عن نفسي عندما تقع حوادث ضخمة حولي منذ اغتيال السادات في ١٩٨١ وحتى تفجيرات نيويورك بعد هذا بعشرين سنة كلنا بأشكال مختلفة نحاول حماية أنفسنا عن طريق التجاهل والمضي قدمًا كما لو

وفي النهاية ليس الغرض من العلاج أو التعافي هو أن نصير شخصًا مثاليًا، بل شخصًا مرتاحًا مع نفسٍ ممكنة التغيير وقادرة على التخفّف من حمولات ناءت بها لأعوام طويلة، خاصة ما اندفن منها في تلافيف وأعماق اللاوعي.

كانت علاقتنا معقدة للغاية، يمتزج فيها الدعم القوي لاختياراتي في التعليم والحياة بالتمييز الواضح بيني وبين إخواني الذكور، يختلط فيها الخوف الطفولي منها مع امتناني لحبها ومساندتها اللذين منحاني القدرة على التحرر منها هي ذاتها وعلى أن أفعل ما أريد

لكن وفود العالم الثالث الفقير تعاملت بأريّحية وأشعلت شموعًا مع انقطاع الكهرباء وشاركت في نصب الخيام عندما تهاوى بعضها كانت خبرة جميلة وملهمة وبرزت فيها قدرة نساء من مجتمعات أفقر في التعامل مع تحديات المناخ، لأنهن أوسع حيلةً وأكثر قدرة..

وفي النهاية ليس الغرض من العلاج أو التعافي هو أن نصير شخصًا مثاليًا، بل شخصًا مرتاحًا مع نفسٍ ممكنة التغيير وقادرة على التخفّف من حمولات ناءت بها لأعوام طويلة، خاصة ما اندفن منها في تلافيف وأعماق اللاوعي

وفي حوار صحفي في أوائل التسعينيات قالت لطيفة الزيات: “تقدمت في السن وأدركت أنه ليس من السهل تغيير المجتمع، ولكن كل ما يمكن أن يطمح فيه الإنسان هو أن يغير نفسه”.

خير القول

كانت مصر تتدهور في المجال السياسي بوضوح وتضعف آمالنا في الإصلاح والتغيير، بينما زحفت طبقات من اللامبالاة والتدمير العشوائي على كل نواحي حياتنا اليومية.

اومال لو شافتنا دلوقتي هتقول علينا ايه 🥺

أعرف أنني كنت دائمًا أتوق للحرية، لذا تحاشيت الدخول بالكامل تحت مظلة أي جماعة بعينها.

مع خبرات الحياة ومراني المكثف دراسة وعملًا في مجال التحليل النفسي، صرت أعرف أننا كلنا نعتمد دائمًا على بعضنا البعض ويستحيل أن يكون الفرد حرًا حرية تامة.