الهروب إلى الظل > مراجعات رواية الهروب إلى الظل
مراجعات رواية الهروب إلى الظل
ماذا كان رأي القرّاء برواية الهروب إلى الظل؟ اقرأ مراجعات الرواية أو أضف مراجعتك الخاصة.
الهروب إلى الظل
مراجعات
كن أول من يراجع الكتاب
-
إبراهيم عادل
ما الذي يمكن أن يفكر فيه مثقف مصري عجوز يشعر بأنه يعيش أيامه الأخيرة اليوم؟ هل يمكن أن يخوض صراعًا أخيرًا لإثبات مكانته الأدبية مثلاً؟ هل يمكن أن يقتصر دوره على رسالة وداع أخيرة لأصدقائه ومحبيه إن كان ثمة أصدقاء؟! أم يكتفي بالانسحاب الكلي من المشهد ولو في صمت؟
هل يمكن لسيرة طبيبٍ أن تكون محفزًا للكتابة؟ ماذا لو كان طبيبًا مغمورًا؟ ولو كانت المعلومات المتوفرة عنه الطبيب نادرة وقليلة للغاية؟! ما الذي يمكن أن يجمع مثقفًا عجوزًا في آخر أيامه بطبيبٍ مغمور مات في الستينيات؟!
كيف يتعامل شباب المثقفين مع الكبار؟ وإلى أي مدى يتأثرون بهم ويؤثرون فيهم؟ هل سحب عصر وسائل التواصل الاجتماعي البساط من تحت أقدام كبار النقاد والمثقفين وظهر بالفعل جيل بل وأجيال عديدة بدون آباء يدينون للتكنولوجيا وثورة المعلومات بأكثر مما يدينون به لأساتذة ومعلمين حقيقيين في الكتابة والأدب؟!
يؤجل فريد عبد العظيم في روايته "الهروب إلى الظل" الإجابة عن هذه الأسئلة كلها، ويختار لبطل روايته بداية مختلفة ومغايرة للتوقعات، المثقف العجوز، الذي يفكر في الكتابة عن الطبيب المغمور يقع في الحب، ومنذ السطور الأولى نكتشف أن حبيبته هجرته بسبب قبلة!
هكذا يأخذنا الكاتب لكي نتتبع سيرة حياة بهيج داود وحبيبته حياة، من خلال رسائل يفترض أنه يكتبها لها من جهة ونعرف من خلالها تفاصيل نشأته وحياته وما دار فيها من تغيرات من جهة أخرى، وعلاقته بالمثقفين والوسط الثقافي منذ عصر عبد الناصر وحتى اليوم، ثم يضع القارئ في قلب حكاية طبيب الغلابة "فريد حداد" الذي كان جارهم في مرحلة الطفولة وتأثر بحكايته ويود أن يكتب قصة حياته في رواية ولكنه لايجد عنه إلا معلومات قليلة، يتمكن بالفعل من تجميعها ورسم صورة تكاد تكون كاملة لذلك البطل الحقيقي الذي مات في أواخر الخمسينيات في سجون عبد الناصر.
ينتقل بنا بعد ذلك إلى مصادفة أخرى تقلب حياة بهيج رأسًا على عقب، وذلك عندما يتعرف عليه مجموعة من الشباب المثقفين (هادي وسيف ومنصورة) وكيف تغيّرت حياته واستطاعوا أن ينتزعوه من عزلته الاختيارية تلك، إلا الانغماس في عالم "وسط البلد" ومثقفيه الذي كان قد هجره منذ فترة، وهكذا يدخل بنا الكاتب إلى عالم اليوم في علاقات المثقفين ببعضهم وعلاقة الشباب بالكبار، وما يجري في عدد من كواليس دور النشر والتجمعات الأدبية والشلليلة وغير ذلك، كل ذلك من خلال تلك الشباب الثلاثة الذين ينضم إليهم اسم رابع يبدو بديلاً لبهيج داود وهو السنباطي، الذي يبدو حاضرًا ومتواجدًا وذا سلطة وصيت في أوساط الشباب حتى اليوم.
بين تلك الحكايات المترابطة يتكشّف لنا عالم المثقفين بطريقة مختلفة، واشتباك علاقتهم طوال الوقت بالسياسة، ويختار لذلك توقيت ما قبل ثورة 2011 من مظاهرات ودعوات احتجاج يتحمس لها الشباب وينظر لها هو من بعيد، كما يدور معهم حول عدد من الأفلام المستقلة التي بدأت انتشارها في ذلك الوقت، ورغم مرافقته لهم إلا أنه يبدو غير راضٍ عن شيءٍ، غريبًا عن هذا العالم غير قادر على الانتماء إليه، وبين هذا وذاك و تطرح الرواية أسئلتها الكبرى ببساطة، ويلقي بها بهيج بين الحين والآخر، وكأنه يقدم مراجعات لحياته وأفكاره وعلاقاته:
(( المصيبة الكبرى أننا ننسى، نتناسى ماضينا وننغمس في حاضرنا، يتساءل: هل النسيان عملية تحايل رخيصة؟ البشر ينسون، الأمم تنسى، يؤكد: التذكر من سمات الحضارة، لن تتقدم الأمم إلا بتذكر تاريخها وعدم تكرار مآسيها مرة أخرى هل كلام المثقفين ليس له معنى؟ أظنك بمجرد قراءتك للفقرة السابقة ستقولين بضيق: أصدقاؤك حديثهم ماسخ يا بهيج، كلماتهم تبدو أنيقة لكن بلا مضمون، أصدقك القول، انا بنفسي اختبرت ذلك، أجتر الذكريات طوال الوقت، لم أدفن رأسي في الرمال وأحفظ عن ظهر قلب التاريخ المأساوي لبلادي، ماذا حدث لي جراء ذلك؟ لا شيء، لم أصبح متحضرًا بعد، أكرر الأخطاء نفسها وكأنني مسير.. ))
من جهة أخرى تبدو سيرة فريد حداد رغم نهايتها المأساوية أكثر ثراءً، فالرجل الذي جاء جده من لبنان منذ الحرب العالمية الأولى، وعاش أبويه في مصر وانتميا إلى الطبقات البسيطة، عمل والده وديع طبيبًا أحبه الناس لما أبدى من خدمات في مساعدتهم، ولذا نشأ ابنه فريد محبًا للطب ولخدمة الناس على السواء، اختار أن يكون مصريًا وانتمى إلى فئات الشعب البسيطة والفقيرة، ولا غرابة فقد كان ابن عمه شاعر مصر الأبرز فؤاد حداد، الذي كتب في رثائه قصيدة (الشاي في إيد الشهيد)، واستطاع أن يحوز على محبة الناس في الفترة زمنية قصيرة، وأن يجمع بين عمله في القاهرة في شبرا ومصر الجديدة ومساعدة البسطاء والمحتاجين في القرى، يتغيب عنهم لفترة فيفتقدونه، يتحدث عنه الراوي فيقول:
((خرج لمقابلتهم فأحاطوه بالمحبة، سكنت آلامه، تساءل: لماذا أتيتم؟ أنا لست أستاذًا أدرس لكم، الجميع يمرض ويتغيب عن العمل، فما المشكلة؟ يرد أحدهم: أنت دائمًا ما تهتم بأمرنا دون أن نطلب، نعرف أنك لست مدرسًا وإنما صديق يقدم النصائح، يعقب أخر: أنت من أقنعت والدي بالموافقة على انضمامي لفريق المسرح، يتدخل ثالث: لن أنسى يوم حضرت إلى منزلنا وجلست لساعة تحاول إقناع أمي بعودتي ثانية لدروس الموسيقى، يعقب فريد: لم أعرف قبلًا أنني مهم لأحد إلى هذه الدرجة، تقاطعه البنت الحاملة لبوكيه الورود: أنت مثلنا الأعلى يا دكتور، كنت طالبًا بمدرستنا وتفوقت حتى أصبحت طبيبًا شهيرًا، يضحك، ربما لمنع دموعه من الانفلات: لست شهيرًا، لا أحد يعرفني غيركم فتقاطعه: من لا يعرف طبيبنا المجاني؟ تكمل أخرى: شبرا كلها تحبك، يبتسم فتعقب ثالثة: ومصر الجديدة بضواحيها تحبك جدًا))
استطاع فريد عبد العظيم أن يبني عالم فريد حداد، ويحكي طرفًا من قصة أسرته، وذهب إلى أماكنهم وتتبع بخياله الروائي الخصب آثارهم وما يمكن أن يكون قد دار من حوارات وأفكار ورؤى داخل ذلك البيت وهذه الأسرة، ورغم كل ذلك لم تقتصر الرواية كلها على سيرة فريد حداد وحكايته، ولكن اختار الكاتب أن يضمّن سيرة الرجل في حكاية صاحبه "بهيج داود" بل ويكسر الإيهام بكتابة رواية عن ذلك الطبيب الذي تأثر بحكايته فيتحدث مع حياة عن محاولات الكتابة وكيف كان البحث عن معلومات وتفاصيل عن سيرة الرجل صعبة، بل وينهي ما كتبه بعدم رضاه التام عنه، إذ يرى أن السرد ممل ورتيب، وكأن الكاتب فيما يتبنى موقف بطل روايته يعكس من خلاله ذلك التلاقي بين الشخصيتين، الذي يلا يبدو بينهما أي تلاقٍ فأحدهما نجح في حياته وساعد الناس بالفعل وكان عضوًا مؤثرًا انتهت حياته نهاية مأساوية، فيما الآخر يعجز عن مساعدة الشباب الذين يلتفون حوله، ويرى في نشاطهم استغلالاً لاسمه وتاريخه، وهو الذي آثر منذ البداية أن يهرب إلى الظل وألا يواجه لا ماضيه ولا حاضره، بل ولا حبيبته!
.
.
السابق | 1 | التالي |