كانت لدي قناعة قديمة بأن الضحك أكثر من مجرد وقتٍ ممتع، أو لحظاتٍ يغتسل فيها القلب من همومه، أو ذكرياتٍ تجمعنا مع العائلة والأصدقاء والأحباب؛ الأمر أكثر عمقًا وتجذرًا؛ الضحك وسيلة وحيلة إنسانية للالتفاف على شيء ما، حزن مدفون لا يمكن التعبير عنه، أو سخرية لا يمكن الجهر بها، لكنها تمر عبر نكتة، أو حتى تلميح بمكنون داخلي تُنقذه الابتسامة من خجله، وتُطلق سراحه.
ولأول مرة أقرأ كتاباً يتناول الضحك على محمل الجد، كسلوك إنساني، ومكون رئيس من مكونات الشخصية المصرية، وعادة وتراث متأصل في تاريخنا، منذ أن عرفنا الكتابة، وحتى هذه اللحظة، والكل يضحك، الصغير والكبير، ذلك الوقور أو هذا المدير، الكل لديه قدرة على (التنكيت)؛ الشيخ، والكاتب، والشاعر الأكول، والست بجلالة قدرها، وحتى الجبرتي المؤرخ الرصين.
دكتور محمد غنيمة باحث متكامل، يُلقي الضوء على ما نعتاده ونمر به مرارًا، ولا ننتبه لشيء ما يُميزه، لا تفوته التفاصيل؛ ولا أُبالغ إن قلت أن اهتمامه بتفاصيل بحثه، التي قد تسقط سهوًا من أكثر الباحثين جدارة، هي إحدى أسرار تميزه، وبجانب رصانة المحتوى هو يملك أسلوب سلس؛ جدًا سلس، وبشكل لا يُشعر القارئ أصلًا أنه يقرأ، بقدر ما يُشعره بأن الكاتب (شد كرسي) وجلس يتحدث معه في دردشة ظريفة عن موضوعٍ ما، وفي هذا الكتاب، المختلف في موضوعه عن ما عودنا عليه أصلًا من تناوله لتاريخ الأسرة العلوية، هو يُلقي مرة ثانية الضوء على ما نمر به وننسى تميزه، لكثرة ما اعتدناه، وأصبح (حقيقة) مُسلّم بها.
المصريون أبناء نكتة، هذه مقولة شهيرة، تمعنت فيها طويلًا بعدما قرأت الكتاب، نحن بالفعل نولد من رحم الضحك؛ الضحك والسخرية والفكاهة توحدنا، نسخر من أحزاننا قبل أن نُفكر في شفاءٍ لها، ونضحك من مشاكلنا قبل أن نحاول البحث عن حلول لها، الضحك أولًا وقبل كل شيء، وهذا الكتاب يضع يد القارئ على تلك الحقيقة بجلاء، يُمررها بين السطور ولو لم يقلها دومًا بصراحة كل الصحف التي تناول الكاتب حكاياتها دلالة ملموسة على هذه الحقيقة.
الرائع في هذا الكتاب أنه ألقى الضوء على جانب آخر من شخصياتٍ لا نعرف عنها إلا وجه رصين؛ وجه الجبرتي الضاحك كان مفاجأة حلوة بالنسبة لي، وسخرية أم كلثوم اللاذعة ثبّت لدي الانطباع عن مدى قوة شخصيتها، بجانب أنه جمع لنا الروائع والنوادر من الكتب، وسلط عليها الضوء، فأعادها بذلك لذهن من قرأها من قبل، أو عّرف بها من لم يسمع عنها سابقًا.
التتبع والربط والجمع واضح في الكتاب، وهذا يعني مجهود بحثياً شاقاً، وساعات قراءة طويلة، ومعرفة واسعة.
الكتاب رائع، غريب، وفي وقته؛ وفي وقتٍ لم يتناوله حتى أبرز الكُتّاب الساخرين، وفي الواقع هو أكثر من كتاب يُقرأ ويُستفاد من معلوماته الموزونة، هو مشروع توثيقي حقيقي، أتمنى كقارئ وككاتب محتوى أن يتحول لما هو أكثر من كتاب رائع جدًا، لعل السرور يمد نفسه في أيامنا.
قبل أن أختم، أنا معجبة بالعنوان؛ سياحة في تاريخ مصر الفكاهي.. العنوان دقيق جدًا، وكلمة سياحة في محلها تمامًا..
