"بورتريه لأبي العلا البشري.. أحيانًا يأتي الجنون بانتصارات تغيب عن العقلاء"
"هتسيب مستشفى المجانين.. وتعيش مع مجانين تانيين.. ماهي دنيا تجنّ العاقلين.. إوعى تروح بقى في الباي باي" أحب هذه الأغنية بصوت الجميل نجاح الموجي، ولطالما تساءلت من هو المجنون؟ أراها كلمة عامة من الصعب إدراك حدودها، والقصور في الاتزان النفسي والعقلي أمر مختلط يلحق بكثيرين، تم تشخيصهم بالمرض، أو لم يتم تشخيصهم بعد، أو من السالمين المحظوظين باتزان ولو كان نسبيُا.
المكان هنا في هذا النص الروائي مصحة نفسية، وأبدأ بذكر المكان لأنه هنا بطل من أبطال الرواية، بل قد يكون هو أهم الأبطال، وله النصيب الأكبر من ثقل فكرة الرواية، والشاهد الأحق على هذا العالم المضحك إلى درجة الألم.
يبدأ النص بفصل بديع، طريف، يرسم ابتسامة على وجه القارئ، وكذلك يعرّفه بطبيعة العالم الذي سيرافقه في باقي الصفحات، سؤال يقابله قلق مضحك، ربما حالة "القلق المضحك" هذه هي التي رافقتني طوال الرواية، وربما هي الحالة التي يودّ النص التطرّق إليها.
السرد هنا على لسان الراوي المتكلم، نزيل في المصحة، وهو أمر مربك؛ فربما يكون راويًا مشكوك في كل ما يحكيه! جاء السرد قويًا وممتعًا، بلغة مناسبة، ظريفة، مضحكة في بعض الأحيان، تُنسي عالم القسوة الذي يعيشه هؤلاء النزلاء، أو ربما يعيشه كثيرون غيرهم خارج المصحة!
صحيح أن الحوار مناسبًا لكن شعرت أن مساحته طغت على النص، حتى بدا لي أني أقرأ "سيناريو" وليس نصًا روائيًا، كما أن عالم المصحة النفسية تم تناوله مسبقًا في إبداعات كتابية أو مرئية، فكنت أفضّل أن يكون للنص تفاصيل مميزة، مستقلة قليلًا عما في ذهن القارئ من أفلام One flew over the cuckoo's nest ، وفيلم Twelve monkeys.
أعجبني للغاية موازاة عالم المصحة مع ما يحدث في الوطن العربي من سقوط مدن ودول، كان هذا علامة تميّز للنص، وتمنيت أن يتم تضفيرها ودمجها جيدًا مع الأحداث، ربما كانت سثري النص بتفاصيل قوية، تجعل له روحًا من الأصالة.
الشخصيات في الرواية ليست محركًا للأحداث، وإنما بشكل أكبر تخدم الفكرة، الأحداث نفسها هنا ليست تصاعدية، أو متشابكة، تُروى على لسان البطل وتشركنا في معرفة الأسرار التي يجهلها كثيرون في المكان.
من أجمل لمحات النص هي الحالة الفنية المتواجدة بين الشخصيات؛ فالبطل يرسم "سكتشات" و"بورتريهات" ببراعة، وهناك مسرحية من تأليف "الشاذلي"، هذه المسرحية كانت من الممكن أن تعبّر كثيرًا عن النص وشخصيته، لكن جاء هذا الجزء في أواخر الرواية بطريقة مباشرة للغاية، أنقصت من جمال كثير يمكن أن يخرج من هذه التفاصيل الفنية.
نهاية النص تمنيتها أقوى؛ فجاءت عادية، ليست على مستوى الأفكار المطروحة في الرواية، ولا ترضي شخصية البطل التي بدت بطموح ورؤية واسعة.
على ذكر الجنون فإن للجنون متعة يدركها العقلاء، ومتعة هذا النص هي مزيج بين الجنون والمنطق، بين أمان السجن وتمرّد الحرية، بين الخوف من العقاب والأمل في الانتصار، وربما قد يحقق الجنون -ولو كذبًا- ما عجز منطق العقول عن تحقيقه في "بورتريهات" لا تعرف الكذب.