مسيرة لا تنتهي 1
تأليف
نصري الصايغ
(تأليف)
عندما صرت اثنين أنا والكلمات
تجربة الكتابة لأوّل مرّة، كانت بناءً على أمر الراهب الناظر: اكتب رسالة لأهلك. وستصبح الرسالة في ما بعد، الوسيلة الوحيدة لمخاطبة الأهل من بعيد... رسائل لا تشفي، تقهر. أَدَّعي أنّني مسرور، ولا أحتاج شيئًا، فيما كنت أتدرّب على الاختناق الحميم. كتبت رسالة إلى كلّ واحد من أفراد العائلة، كنت أُصِرّ على ذكر الأسماء. الأسماء نجوم تُضيء عبوس الساعات وحلك البُعاد. كانت الرسالة الأولى طويلة، محتشدة بالكلمات والأشواق والأماني والذكريات، ويُستَشفّ من قراءتها أنّها آتية من حزن صامت، وكلام يُهندِس ابتسامة، فتُقرأ كدمعة.
إطّلع الكاهن على رسالتي، وعلى رسائل الإخوة أيضًا. هذا واجب، هذا نوع من المراقبة المستدامة. الراهب يُراقِبك من الصباح إلى المساء، والرسالة تؤهّله ليدخل إلى حناياك. يطرب إذا كانت ملوّنة بالقداسة، ويعبس إذا كانت عاطفيّة... هكذا قيل لي مرارًا. لا تكشِف عن قلقك، قلْ كلّ شيء تمام التمام.
إطّلع الراهب ومدير الإكليريكية على الرسالة، كانت طويلة محتشدة بالأشواق، والأماني والذكريات، وحزن صامت تشي به الكلمات. وبَّخني بلطف، وأسرَّ إليّ بصوت رقيق: «إنّ أخطاءها قليلة، وفيها نَفَس شعريّ، وأنّ... وأنّ...». مدح متواضع لأوّل نصّ كتبتُه. بعد صمتٍ قصير، طلب الراهب منّي أن أنكبّ على القراءة وحفظ القواعد كي أتمرّس بالكتابة السليمة.
يا هذا الراهب الأستاذ، أشكرك. ألثم يديك. هذه أوّل مرّة أشعر أنّ لجناحيّ سماء صغيرة، وزرقة تتَّسع للأحلام، وحقيبتي سأملأها بالسطور والكتابات والكلمات. صرت اثنين: أنا والكلمات.