"منام القيلولة.. أفكار بشر لم يعرفوا راحة النوم"
الحكّام يديرون شؤون البلاد، والشعب يعيش في سلام يطويه روتين الحياة والعمل، الأفكار هي وحدها من تنمو وتبحث عن مجال لها، ولا سبيل لقمعها مهما طال الزمن أو صعدت رؤى على حسب أخرى.
المكان هنا في النص الروائي قرية "ينبو"، على أرض الجزائر، ليس مجرد قرية وحيّز مكاني، نتعرف في نسيج شعبها على تأريخ وإماتة الأفكار المقترنة باختفاء وظهور الشخوص.
صرخة استغاثة هي ما بدأ به النص، صرخة أم اسمها "لالّة مسعودة"، تأمل في حفظ أولادها، وقدرتهم على مواجهة شرور ما يواجههم من صعاب.
يظهر بناء النص من خلال شخصياته مع الصفحات فنعيش إيقاع رواية سريع وربما متسارع في ثلثه الأول، بظهور واختفاء شخصيات، وأسماء تتدفق أحيانًا تشتت القارئ بين هذا وتلك، لكن مع تتبّع الحدث نرى كل شخصية بأهدافها ووجودها، من شخصية "حميد النوري" زوج "لالة" الذي دخل المسجد مرة واحدة، و"سليمان الأعوج" الذي ظهر لصفحات قصيرة لكن كان له أثر نسبي في باقي الأحداث.
يتنقل السرد بين الراوي العليم والمتكلم بشكل مفاجئ، أمر مشتت وكذلك يحتاج إلى كثير من الإنصات لروح النص، أو ربما مثلما ذُكر أن الحديث بالغيب أكثر راحة ويكشف كل إنسان أمام ما يغيب عن عينيه، أما بخصوص السرد فالروائي متمكن من أدواته بشكل كبير، سرد قوي، ملهم، مستفزّ لمواجهة الأفكار المطروحة بين ثنايا النص.
من الأمور الملفتة كذلك في هذا النص هو غياب الحوار، الرواية شبه خالية من الحوار باستثناء حوار دار في أحد الفصول الأخيرة، صحيح أن سرد الرواية استطاع جمع خيوط الأحداث والشخصيات، لكن غياب الحوار أنقص من ارتباطي بعالم الرواية؛ فشعرت أني أشاهد هذا العالم من خلف لوح زجاجي وتمنيت أن أعيشه بتعمّق أكبر.
نأتي للشخصية التي مثّلت روح النص في رأيي وهي "إدريس الغول"، وبالمناسبة الشخصيات في هذه الرواية تمتّعت بسُلطة أدبية قوية، مجال الشخصيات هنا واسع، يحمل الكثير من الأفكار والرمزية، فلن تجد الشخص يفعل المعتاد في حياتنا، وستجد أمورًا في عرف المنطق مبهمة وغير صحيحة، لكن في عرف منطق الروائي مدهشة، وباعثة للتعمّق في أفكار وتفاصيل النص. من هو "إدريس الغول"؟ هو ابن "لالّة مسعودة" التي صرخت في البداية بلهفة عليه، هو شخصية ثرية أدبيًا، بتفاصيل كثيرة متناقضة ما بين قوته، وسطوته، وتعامله مع الحيوانات، ووجوده في مشفى الأمراض العقلية، قوي وفي ذات الوقت تشعر بشفقة تجاهه، وتتساءل ماذا يمثّل "إدريس الغول" لقرية "ينبو"؟ وماذا يمثّل لنا كبشر في عرف الحكّام والدول؟
أفضل ما في النص هي تلك العلاقة الروحية الفكرية بين "إدريس" وأخوه "عبد القادر المخ"، أو كما يلقّب بلقب "سارق المصحف" الذي سرقه من المسجد! يحكي بلسانه كثيرًا في النص عما يؤمن به، واستطاع برزانته وبفصاحته أن يلفت الجميع، إلى أن اُتهم مثل أخيه بالجنون، "إدريس" اُتهم بسبب أعماله الوحشية والعنف، و"عبد القادر" اُتهم بسبب قوة تأثيره، وأفكاره، وقراءته لكتاب أبي المعري، ومقهى "ابن خلدون" الذي صار مكانًا يتحدث فيه أهل القرية عن أحوال البلاد السياسية، فالتشابه بين الشخصيتين كبير، حتى خلال النص تتبدل ملامح وجهيهما ولن تستطيع أن تراهما مجرد أخوين، بل لكل منهما ثقل في فكرة النص.
من الشخصيات الغرائبية "مولود الزين" الذي عاش بصحبة حيوانات الحديقة، يأكل ويشرب معهم، وكأن محاولة تنمية العيش لن تأتي إلا بمجابهة أو معايشة الحيوان مثلما واجه هو أو "إدريس"!
أفكار النص تتضح مع الوقت، وتتساءل هل بالفعل كل ما يحدث في القرية من سطوة الحكم الإسلامي مؤثرًا في حياة الشخصيات والحياونات؟ أم يحاول الروائي إقحام أفكار خاصة به داخل نسيج النص؟ شعرت بالأمرين معًا، وعشت حالة تناقض قوية، أحيانًا أرى نصًا محترفًا في عرض أفكاره مستندًا على أدوات فن الرواية، وأحيانًا أخرى سمعت صوت شخص الروائي.
نهاية النص جاءت مرتبطة باستغاثة الافتتاحية، محملة برسالة أو رسائل نتساءل معها عن كل ما عشناه في النص من أحداث مفزعة وملهمة في ذات الوقت.
من النصوص التي تركت بداخلي أثر متناقض كبير، وحينما يصبح الفن مؤثرًا فقد أدى دورًا كبيرًا بالفعل، الروائي محترف في سرده وأدواته الروائية، وكذلك شعرت بإقحام فكري له متجاهلًا بناء النص في بعض الأحيان، وبكل هذا التناقض والأفكار وتناول تاريخ أرض الجزائر بمنظور رمزي فلسفي روائي أرى أن تجربة قراءة نص كهذا مثمرة لحد كبير، باعثة على التساؤل أو المعارضة أو المواجهة، هذا في حد ذاته مكسب كبير، ما بين متعة وأفكار لا ولن تنام في مضمار سعي البشر تجاه حقهم في الحرية.