تمت القراءة شهر،4 /2024
الكتاب السادس والثلاثون/ 2024
أسفار مدينة الطين- الجزء الاول – سفر العباءة
سعود السنعوسي
لو أن غريبًا أطلَّ من سطوح البيوت الطينية بعد شروق شمس اليوم؛ لخُيِّلَ إليه أن سربًا من غربان الدُّوري قد حَطَّ على رمال السَّاحل الرَّطبة. أعناقٌ مشرئبةٌ نحو الأفق الأزرق، وعيونٌ تتحرَّى مُقبلًا يجيء من بعيد. غير أن الدِّيرة لا تعرفُ من الغِربان إلا فُرادى بغير أسراب، تتسلَّلُ إلى سفن التِّجارة الرَّاسيةِ في موانئ الهند، وتندسُّ بين زكائب التَّوابل والحبوب والشَّاي، وتسافر مع السُّفُن في أوبتها إلى الدِّيرة، فتَلفي نفسها مُتسلِّلَةً غريبةً في بلادٍ غريبة. وتمكثُ على السَّاحل الشَّرقي شهورًا تتحرَّى إبحارَ السُّفُن الشِّراعية ثانية إلى الهند. لا غِربان في الدِّيرة. لا غِربان إلا قليل.
اسفار مدينة الطين ملحمة كويتية تاريخية زاخرة عميقة كتيها لنا السنعوسي بحنكة ومهارةتتحدث عن الكويت القديمة بدايات التاسيس،كبتها بقلم كاتبه صادق بوحدب صاحبه كائنات فياصل المشيعل كما سماها في سطورها وصفحاتها بـ عهد الشيخ سالم بن مبارك (حاكم دولة الكويت التاسع) زمن الغوص على اللؤلؤ والسور حيث كان كل ما هو بالكويت بسيط وجميل بعيداً عن التمدن ، الرواية قوالب سردية متداخلة بكل دقة و ذكاء و خفة. و اقدر اعتبره نص تفاعلي مع الطبعة الفلسطينية الاولى لعام 2023 اصدار دار طباق للنشر وعدد صفحات 450 صفحة .
سعود السنعوسي وهو صاحب مشروع روائي نقل الكويت من خلاله الى القارئ العربي بدأه مع سجين المرايا وأطلق اسمه عربيّاً مع ساق البامبو ثم أكمله بالتنبّؤ القاسي في فئران أمي حصة، والذي اختبر نفسه بلعبة روائية صعبة في حمام الدار أحجية ابن أزرق، وبعدها أكمل بنصّ قصير بدأ هدوء ما قبل العاصفة معه وهو ناقة صالحة، يصل بمشروعه الملتزم بأحوال الكويت تاريخاً وجغرافيا وشعباً، عاداتٍ وتقاليد وأعرافاً، ينقلها ويرويها ويحاسبها وينقدها ويتغنّى بها أحياناً، الكويت التي تغدو رمزاً لكل منطقة الخليج والصحراء، إلى نصّ فيه من الدراسة والبحث والتمحيص، ما فيه من فنّ السرد الروائي، وربما أكثر.
يوجد نص للسنعوسي، يتكلم عن الكاتب صادق بو حدب الذي يقدم لنا رواية في متن نص السنعوسي، و في هوامش رواية بو حدب يقدم لنا السنعوسي احد رسائله الاساسية (باعتقادي الشخصي..و ودي اقول الرسالة الأساسية ...)
يبدأ هذا العمل بفصل من السرد الأساسي و يختتم بفصل من نفس السرد. النص الأساسي لكاتب تمنع له رواية و يصدر قرار بسحب النسخ من المكتبات و تحويلها لمستودعات الاتلاف. و ما بين هذين الفصلين تقع هذه الرواية الممنوعة. يقدم لنا الكاتب صادق بو حدب نص روايته الممنوعة بكل تدخلات رقيب و محرر وزارة الإعلام. و من خلال الهوامش و و علامات الطمس لبعض الاسطر في الرواية، يقدم لنا السنعوسي صوت سردي جانبي (هامشي) بالنسبة للبناء العام للنص. صوت جدا يسلط الضوء فيه على تدخل الرقابة و تعديها على النص باسلوب مسلي جدا و تفاصيل تضفي لمسة واقعية للفكرة.
في هذا العمل الاستثنائي للأديب الكويتي سعود السنعوسي، نسافر عبر الزمن إلى حُمرَة علم إمارة الكويت في أوائل القرن العشرين، وبالتحديد عام ١٩٢٠. نتخيل بها تاريخ الكويت، تاريخ أهلها، نبتعد بعدا أشبه ببعد السنين الضوئية بين تطور الحياة الذي لا نزال نخطو خطاه. وبين البساطة المهيمنة في حقبة من حقب التاريخ في الكويت. العباءة كانت البداية والتتمة تأتي مع ؤالتبة ثم يأتي الترقب مع العنفوز، لتشكل ملحمة أسفار مدينة الطين، حيث بيوت ومباني الطين تشكل الحياة قديما في الكويت.
أحداث الرواية في تلك الأسفار، بين عباءات الصاجات ، الصادقات منهن والكاذبات ، الحاملات لتنبؤات عودة البحارة من معاركهم مع الأعماق محملين بالرزق الوفير. وبين إخوان من طاع الله المحملين بالفكر الديني المبغض لعباءات الصاجات، والساعين إلى الحكم من خلال معركة حمض، والناس بين مصدق لتنبؤات الصاجات وبين المتمسك بدينه، وهنا الأجنبي يحاول تمرين عضلات الاستشراق والتنصير ليفرض الصلبان على مجتمع لطالما تمسك أشد التمسك بدينه، وهنا القصور التي تأسر الأرباب رغم أن وقتها كانت بسيطة ولكنها لا تخلو من المقتنيات الثمينة. وهنا الحوطة متنفس المنبوذون من المجتمع، كل تلك الملامح تلوح في أفق الدفتين مثلما يلوح الرجال بسيوفهم مؤدين عرضتهم وعلم الكويت الأحمر المحمل بعبارة "كويت" ترفرف بين تلك السيوف الملوحة.
كل تلك الأحداث لم تكتمل لولا صادق بو حدب الذي يكتب تلك الأسفار يأتيه شخص غامض ويقول له "لا تلعب مع أم حدب! " لتصبح هذه العبارة بمثابة متاهة لأذهاننا بين الحقيقة والخيال ويعيد محبة القراء وهم يحملون الأسئلة الكثيرة عن تلك الأحداث وعن كائنات مشاعل الفيصل التي تدعو للتأمل في تلك الأحداث التاريخية التي تكشف عن عالم آخر. ناهيك عن مذكرات الطبيبة الكويتية التي توثق أيامها ولياليها العربية طبيبة في أروقة الطين. رغم أن مقص الرقابة كان حاضرا من قرارات وزارة الإعلام الكويتية بتجسيد روائي، لكن كان خيال سطور التاريخ هو الذي جعل هذه الرواية من أشد الروايات نجاحا وامتاعا ، نظرا لما تحمله من عمق تاريخي نتخيله في تاريخ الكويت. ولربما يكون الجزء الثالث حال صدوره يكشف عن الأسطورة غير المكتملة كما كانت جلسة مهرجان طيران الإمارات للآداب مع تلك الأسفار !
هذه رواية تاريخية فانتازية، مشبعة بالتراث و الخرافات الشعبية (الحقيقية و المتخيلة) محملة بسخرية و نقد لاذع للرقابة و لمدعين الفضيلة و المطالبين بالمحافظة على "التاريخ الحقيقي" صافي خالي من الشوائب..او ما يسميهم الكاتب بو حدب "حراس الغبار"..
-تعامل الكاتب مع فكرة المراجع و المصادر و الدمج ما بين المتخيل و الحقيقي كان ذكي و مسلي. استخدام شخصية الكاتب
كلّ أماكن عزلتنا الماضية والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة والتي استمتعنا بها ورغبنا فيها وتآلفنا مع الوحدة فيها تظلّ راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن تظلّ كذلك. الإنسان يعلم غريزيّاً أن المكان المرتبط بوحدته مكان خلّاق»، هكذا يتحدّث غاستون باشلار في أحد طروحاته وأفكاره وآرائه حول المكان، ولكن هل ينطبق ما قاله حول التعلّق بالمكان ورسوخه فينا بأن استمتاع أجدادنا وآبائنا في مكان ما وتآلفهم معه سينتقل ويُتوارَث من جيل إلى جيل؟.,
يبدأ النصّ الروائي بإيهام ليس بالجديد على السنعوسي، ولم يعد جديداً على النصّ الروائي بشكل عام، حيث يوهم القارئ بأن الرواية هي نصّ منشور عام 1990 لكاتب اسمه صادق بو حدب ترافق نصه رسومات لـ»فياصل المشعيل» وهي في الحقيقة الرسامة مشاعل الفيصل، وقد صدر بحقها قرار بسحبها من التداول وإتلافها من قبل الرقابة الكويتية، وأنّ بوحدب استلهم كل قصص الرواية عن لسان رجل عجوز زاره قُبيل البدء بالجزء الأول، وحذّره من أن رواية الأسفار ستسبّ له المشاكل.
هذه التقنية اعتمدها السنعوسي في ساق البامبو، حيث يوهم القارئ في أول النصّ بأنه ترجم فقط رواية وصلت إليه وهو قام بنشرها بالعربية ولا دخل له بمضمونها، ولكن لا مانع من أن يعود إلى هذه اللعبة إن كانت تفيد هذا النص، ومن وجهة نظري، أراد السنعوسي استباق الأمور مع الرقابة، التي منعت من قبل فئران أمي حصة، فكأنه أراد للمتلقي أن يشاركه هذا الهمّ الشخصي والثقافي والوطني، حيث تكميم الأفواه في عالمنا العربي يطول من مثله، الأمر الذي لن يستطيع شرحه بتفاصيله على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فتأتي التقنية ليكون القارئ جاهزاً ليدافع عنه إن حصل أمر مشابه.
تبدأ الرواية بتفاصيل حول الصاجّة أم حدب، والتي غيّر الكاتب لها اسمها على الرغم من تحذير العجوز الراوي، وكل ما ارتبط بهذه الصاجّة وغيرها من أمور كانت تحكم عقلية أبناء مدينة الطين، الكويت أو غيرها من مدن الصحراء والخليج، ترتبط بالخرافة والغيبيات، وتأتي الرواية على العديد من هذه الأمور، ولا سيما التركيز على «العباءة» التي تسبّبت في موت أحد البحارة، بسبب نداءات «بودرياه» وهو شخصية خرافية بحرية يعرفها كل أبناء الخليج، تلك العباءة التي تتسبّب في الكثير، على زعم المعتقدين بالخرافة، وخصوصاً عندما تفضح الرواية بأن الأمير لم يقم بإتلافها، وتدخل واقع الكويت وصراعاته في تلك المرحلة، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وما يدور هناك من أحاديث ونقاشات ومؤامرات، بين آل الصباح والإخوان وباقي القبائل، وبخط موازٍ ما يحصل مع البريطانيين والأميركيين والعثمانيين داخل هذه البقعة الجغرافية في تلك المرحلة التاريخية.
تأتي الرواية عندما تنتقل إلى زمن الكاتب الداخلي، صادق بو حدب، على أنّ حرباً شُنَّت عليه وعلى روايته من قبل أبناء وأحفاد شخصيات وردت في الرواية من وجهة نظر الكاتب، أو العجوز الراوي، يتهمونه بأنه شوّه تاريخ أولئك الرجال العظماء، وبالتالي هو تشويه لتاريخ المجتمع الممتدّ حتى حاضره، فتكون غاية السنعوسي التنبؤ لما قد يحصل معه من جهة، وتجييش القراء الذين سيتقبّلون الرواية بوصفها عملاً أدبيّاً ليكون عوناً له من جهة ثانية، فيكون الأدب سلاحاً بذاته وبغاية مقصودة من الكاتب، وهنا الجديد الذي أتى به أسلوب الكاتب وميّزه من نصوصه السابقة.
في الجزء الأول نسمع صوت العقل مع يوميات الطبيبة الإنكليزية، التي تنقل أحداثاً نقلتها لنا الرواية بعشرات الصفحات، كعودة سفن صيّادي اللؤلؤ وما يسبقها ويرافقها من أمور، بسطور بسيطة ورأي بعيد عن معتقدات أهل «الديرة»، ولكن في الجزء الثاني يشمّر السنعوسي عن ساعديه ليبدأ بطرحه المسائل السياسية، فنجد مسؤولاً إنكليزيّاً هنا وآخر أميركيّاً، يتحدثون ويتناقشون، ويمرّر أفكاره ومواقفه حول ما حصل في تلك المرحلة، وما لا تذكره كتب التاريخ، ويحمّل المسؤوليات لأصحابها، من شخصيات كويتية وأجنبية، كلّ ذلك بأسلوب روائي جذل وسلس.
مأخذ واحد على الرواية التي أجد فيها مشروعاً يرقى إلى مدن عبد الرحمن منيف، ومدن الملح أن منيف كان واضحا اكثر وان أعطى رموزا مثل الشيخ خربيط ،حيث ان الرواية كانت متخمة بالشخصيات ومتخمة بالأحداث والقضايا، ومتخمة بالتاريخ والبحث، فيجد القارئ العاديّ نفسه في حالٍ من التساؤل، هل أنا من لا يستطيع مجاراة النصّ أم أنّ النصّ نفسه تعدّى الرواية والفنّ والأدب والمتعة، إلى التاريخ وأخذ كاتبه إلى أماكن بعيدة عن السرد الروائي اللذيذ من دون أن يدري، لأنّ الهمّ والمشروع سيطرا على تفكيره أكثر من سيطرة السردية والأدبية.