طبول الوادي
قد نحتار في فكرة التوجيه، ماذا يراد وأيّ مقصد هو المطروح، أفعالنا التي نهرب إليها من منعطفات الحياة الضيقة لفسحة نستريح عندها، نمارس ما ضحينا به لقائمة اعتبارات عديدة أو نضحي في الفسحة تلك بقائمة الاعتبارات التي شكلت طريقة العيش. وفي كل ما نصنع إيقاع تصنعه خطواتنا مستقيمة كانت أم عرجاء، سريعة أو بطيئة نتوانى عن أحداث كثيرة لكنها تجري بنا ونمضي فيها مرغمين حتى نستعد أن نكون كما يقول المثل "روح بعيد تعال سالم" وهكذا كان سالم.
إن القرارات التي نتخذها جزافًا أو عمدًا أو حتى تظهر كخيارات مصيرية ليست إلا رحلة طويلة فيها البقاء صراع يدوم لفترات متواصلة، ومن ضرورات تمهيد الطرق الحياتية أن يبقى ذلك الصراع وهذا ما لم يستطع الشيخ محسن أن يحافظ عليه ولم يكن سالم قادرًا على فهمه، قادت الموسيقى مشاهد عديدة لم يستمع لمضامينها المارون ولا حتى الهاربون، كانت تنضح من الطبيعة وتتبدد في الجبال راحلة عن المشهد فقد قرر من عاش أن يصنع طريقه بايقاعه الخاص برجله المطلقة في الرياح وببطنه الفارغ وعيونه الخائفة.
من وادي السحتن لوادي عدي، رحلة حملت الكثير من المعاني فيها ظهرت الحاجة وظهرت غرائز تصاحبها، فيها حدد سالم أهدافه الجديدة، المسكن والمأكل والمشرب تحدي جعل من أيامه خطوات محفوفة بالدهاء، كانت يجذب الصبح لسواد أيامه.
ساهم التركيب المجتمعي الثابت في وادي السحتن على بقاء حالة الطبيعة كما هي، صوت الافلاج وخشخشة أوراق الشجر وكان الإنسان فيها أداة في سير العمليات الطبيعية، مزارع يجني ويحرث ومعلم يُدرّس ومجنون عبرة وشيخ يدير هذا الإيقاع في حيز قروي بسيط بمكوناته ومنتجاته، وعلى العكس كان وادي عدي يضج بالتنوع مزدهر ومتلون بثقافاته المتداخلة والأعراق التي جادت في صناعة قيّم مجتمعية جديدة ذاب فيها سالم الهارب حيث لا شيء فيها يعني الطبيعة إلا الناس أنفسهم فقد كانوا صورًا تُظهر اختلافها بعاداتها وملابسها وحتى أيامهم كانت تحظى بأحداث أكثر تشعبًا من الفأر الطائر في وادي السحتن.
العواطف عواصف، كان ما جنن عيسى ولعه وما هيّج وحش الشيخ حبه وما هرّب سالم خوفه وأرجعه حبه أيضًا، كل ذلك تلك العواطف غيرت مجريات الأحوال فتمنى سالم لو استطاع التحليق بين الجبال يفرد جناحيّ الشوق والأسى، واشتاق ضلع الشيخ محسن ابنه فحنى وانحنى ومات.
"إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم، فالراحلون هم"، هكذا هرب سالم ورجع سالم، لم يتمكن أحد أن يعرف الأيام إلا بوقائعها، إلا زهران كان له رأي آخر في الأيام، عاشوا جميعًا في وادي ولكن لكل واحد منهم إيقاعه الخاص وهكذا كانت طبول الوادي.
سعد بن عماد