هكذا تكلّم طارق إمام
■ مزج أول ... كتاب الأقاصيص
مرة أخرى يمنحنا الأديب المبدع طارق إمام كتاباً جديداً ساحراً، وهذه المرة يفاجئنا بمجموعة رائعة من أدب "القصة القصيرة جداً" أو الفلاش فيكشن.
"القصة القصيرة جداً" هي فن شديد الصعوبة وأدب شديد التركيز، يحتاج من الكاتب التمكن التام من أدواته وتقنياته الأدبية واللغوية، فالكلمات والمفردات تحتاج إلى ميزان حساس لضبطها، والجُمَل والعبارات تحتاج إلى فن بارع لصوغها، وجسم الأقصوصة الصغير يحتاج إلى فكر منضبط ورؤية مكثفة ووعي متقد، ومقص قاطع عند اللحظة المناسبة في النص، والنهايات تحتاج إلى خيال خصب وقريحة متألقة حتى تمنح النغزة الخاتمة للفلاش فيكشن، الهادئة أحياناً والمتوهجة أحياناً والساحرة دائماً.
استوقفني عنوان المجموعة "أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها"، هي إذن أقاصيصنا الصغيرة، لأن القصص الأطول من أعمار أبطالها هي "التاريخ" أو هي "المعرفة"، حاولت أن أتتبع ذلك في الأقاصيص، وجدت المعاني تحمل شذرات معرفية وإلهامات وجدانية،
فسؤال المعرفة الذي يقود إلى الحكمة، تستغرق إجابته بالضرورة أطول من أعمار السائلين عنها والساعين إليها، وهذه هي المفارقة، فكان الحل عند طارق إمام هو تلك الأقاصيص القصيرة، فهي وإن كانت أقصر من أعمار أبطالها، لعلها باختصارها وتكثيفها، تضيف امتداداً لعقول ووجدان وأعمار قرائها.
الغلاف بذاته هو قطعة فنية شديدة العذوبة بلمسة طارق إمام، مع الرسم الملهم والخط الأنيق والألوان البديعة.
عندما دخلنا من باب الكتاب هزّتنا رقة الإهداء، ثم وجدنا أنفسنا في أروقة أحد الجاليريات ننظر إلى ١٢٥ لوحة بديعة، أو أمام إحدى المعلقات نقرأ ١٢٥ مقطعاً شعرياً رائعاً، ثم قفزنا داخل ينابيع المتعة.
أتى طارق إمام بحاوية كبيرة ممتلئة بالقصاصات الملونة والورود واللآلئ ثم أفرغها فوقنا من طابقه العلوي، فمنها ما تهادى متراقصاً في الهواء يداعب أنظارنا، ومنها ما أطلق عبير السحر يداعب شجوننا، ومنها ما وقر فوق رؤوسنا يغلفها بشذرات الفكر ونوازع الحكمة.
طاف بنا طارق إمام في عالم الشجون حيناً، وفي عالم الإدهاش حيناً، وفي عالم الطرافة حيناً، وفي عالم التخييل أحياناً كثيرة.
طارق إمام يتعامل مع القارئ كشريك واعٍ وطرف أصيل في العملية الإبداعية، وقد أودع في كتاب الأقاصيص سحراً ملهماً وأدباً بديعاً، جعل كل أقصوصة تبوح لنا بنصف الفكرة فتمنحنا كل المتعة.
أقسمنا على تلك الأقاصيص المتطايرة أن تبوح لنا بالمزيد قبل أن تمضي، فأبت، ووجدنا أنفسنا منخرطين في إدراك الفكرة بأنفسنا وإكمالها بخيالنا، وقتها اكتملت المتعة.
قيل قديماً أن النُكْتَة في عالم الفكاهة هي أقصر عمل درامي، لكن يبدو أن طارق إمام قد وجد في عالم الأدب ما هو أهم وأعمق وأكثف، ففي كتاب الأقاصيص يقدم لنا أقصر عمل أدبي يحمل جُل الفكرة، وكل المتعة.
■ مزج ثان ... مثلثات طارق إمام
على الرغم من القصر الشديد للأقاصيص وأن بعضها ينتهي حتى قبل أن نزفر ما شهقناه؛
وعلاوة على مثلث الحيرة في الكتاب الذي شهدناه في أجزائه الثلاثة "لأننا نولدُ عجائز" و"هايكو المدينة" و"لأننا نموتُ أطفالاً"؛
فقد وجدنا أيضاً مثلثات طارق إمام البديعة الساحرة ما زالت تطل من بين طيات وثنايا الأقاصيص وتقفز فوق صفحات الكتاب:
☆ مثلث النهج السردي (السُريالي - الرَمزي - البِرناسي)
☆ مثلث المحتوى النصي (الفلسفي - السيكولوچي - الأنثربولوچي)
☆ مثلث التجريب الأدبي (سيولة الزمكان - عبث الأصوات - الميتا فيكشن)
وجدتني أقرأ الكتاب ثلاث مرات، كل مرة كنت أتتبع أحد المثلثات الثلاثة (النهج - المحتوى - التجريب)، مرة كي أتنسم عبق سحر الأدب، وأخرى كي استبصر شذرات المعرفة وثالثة كي أُحَلِّق عالياً مع المتعة.
في قراءتي الأولى وجدت الأقاصيص مفعمة بعبق سحر النهج ... مثلاً في:
○ "أول رجل على سطح القمر"
○ "في كل مكانٍ خانته المدينة"
○ "كُلٌ الكتب التي قرأناها.. كُلٌ الكتب التي لم نقرأها"
○ "حصانٌ في حجمِ إصبع"
○ "مدينةٌ كاملةٌ من الأشخاص الذين لا يكبرون"
في قراءتي الثانية وجدت الأقاصيص مشبعة بأنفاس شذرات المحتوى ... مثلاً في:
○ "الحياة"
○ "كرة أرضية"
○ "س، ج النوافذ"
○ "موت الأب"
○ "الزوَّار"
في قراءتي الثالثة وجدت الأقاصيص تتلاعب بأضلاع التجريب ... مثلاً في:
○ "كلانا ضيف الأخر"
○ "رجلٌ يمشي بظهره"
○ "متطابقون"
○ "مسودة قصة موضوعها مسودة قصة"
○ "موتي.."
كان كل ذلك يتراقص بين صفحات (الجزئين الأول والثالث)، وكانت تلوح منها لمحات تشاغب القارئ، مثل:
□ "هخلي وشك شوارع"
عندما يكون العنوان بالعامية والأقصوصة بالفصحى
□ "نور متفق عليه"
عندما يكون العنوان بالفصحى والأقصوصة بالعامية
□ "الكفوف"
عندما يكون العنوان مجرد رسم
□ "ساقُه" - "ساقُه الصناعية"
عندما تصبح أقصوصة صدى لأخرى
□ "عندما انقلب الناس" - "عندما انقلب العالم"
عندما ترد أقصوصة على أخرى
بينما صفحات (الجزء الثاني) كانت تموج بهايكو المدينة، "الهايكو" ذلك الشعر الياباني الساحر، البسيط الجَيَّاش العميق.
كانت صفحات الهايكو تتحدى بدفقات شعر-نثرية في كلمات معدودة، وصل قِصَر بعضها إلى الرقم القياسي المسجل وهو ست كلمات؛ الدفقة رقم ٤ (زهرةٌ حمراء شقَّت الأسفلت.. أوقفت السيارات) والدفقة رقم ٦ (يظن البرتقالة قنبلة.. ليتأكد، ينزع الفتيل)، لقد قَبِل طارق إمام التحدي الذي بدأه إرنست همنجواي حين حقق الست كلمات.
في القراءات الثلاثة كان العقل لا يهدأ، والوجدان لا يسكن، والمتعة لا تنتهي.
داعبتي الأقاصيص للمرة للرابعة، فوجدتني أقرأ قراءة ذاتية، وألعب لعبة "الأكثر"؛
الأكثر تكثيفاً، والأكثر عذوبة، والأكثر إيلاماً، والأكثر شجوناً، والأكثر جرأة، والأكثر إدهاشاً، والأكثر عجائبية، والأكثر طرافة، والأكثر طولاً، والأكثر قصراً، والأكثر والأكثر والأكثر، ١٢٥ مرة، وما زالت اللعبة مستمرة.
مرة جديدة، نرفع القبعة لأديبنا الساحر طارق إمام.
■ مزج ثالث ... بين الأدب والسحر
إن "القصة القصيرة جداً" هي فن لا يُقدِم عليه إلا أشجع الأدباء وأمهر الكتاب وأبرع الحكَّائين، وقد شاء العظيم نجيب محفوظ بعد رحلته الملحمية الطويلة مع الرواية والقصة القصيرة، أن يختتم الرحلة بذلك الشكل الأدبي المذهل في رائعتيه "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة".
خَلقَت "أقاصيص" طارق إمام حالة أدبية بديعة بين الشعر والسرد ... تجاوزت "رباعيات" چاهين حين أفلتت من أَسْر الأبيات الأربعة إلى رحابة حُر القصيد، وتباعدت عن "أصداء" محفوظ حين تملَّصت من البِرناسية الذاتية المربكة إلى سُريالية موضوعية أشد إرباكاً.
وجدنا طارق إمام يتفوق على مفردات اللغة وعلى تركيبات العبارة، يغزل من الحروف والكلمات خيوطاً مشبعة بالعذوبة والجمال، ثم ينسج منها حُلَلاً وأثواباً تلبسها المعاني، فتتزين الأقصوصة في أبهى صورة، ثم تطل داخل المرآة، فترى القارئ مشدوهاً ومفتوناً، وذائباً من المتعة.
طارق إمام هو كبير السحرة في الأدب السُريالي العربي، أدب ما بعد الدادائية وما بعد السُريالية الأوروبية واللاتينية، وقد صعد عن جدارة إلى قمة عليا في سماء حياتنا الأدبية، وصار أدبه قِبلة لجيل جديد من شباب الكتاب، يتعلمون منه السحر.
وكتاب الأقاصيص مليئ بالتعاويذ السحرية الخلابة، هي ليست مجرد مفردات لغة أو تركيبات عبارة، هي تعاويذ سحر الأدب، يتلوها القارئ فتأخذه بعيداً وترفعه عالياً، إلى عوالم أخرى فاتنة.