جريدة اليوم السابع تقوم بمراجعة مطولة لمقدمة الكتاب، تحت عنوان (مقدمات الكتب.. ما قاله محمد محمود عبد العال فى "من الإرشاد إلى التثقيف"
الخميس، 20 يونيو) متاحة علي الرابط التالي:
مقدمة:
"..حضور كالغياب" هكذا وصف أحد رؤساء الهيئة العامة لقصور الثقافة السابقين أزمة أحد أهم مؤسسة ثقافية فى تاريخ مصر الثقافي. تضارب غامض يتبدى فى تلك الثنائية بين حضور غامض وغياب شبه ملموس. وباعتبارها تصل لأدنى مستوى إدارى فى الدولة المصرية وتتفاعل مباشرة مع المجتمع وتحاول أن توفر الخدمة الثقافية لهم، فهى تعبر عن جانب من علاقة الدولة بالمجتمع فى مصر المعاصرة. والهيئة بفروعها فى الأقاليم والمحافظات والمراكز والقرى ليست امتداداً للحكومة ومؤسساتها وتصوراتها وحسب بل تمثل مرايا تُظهر حالة التنمية الثقافية المحلية المتعثرة. وهو ما يعنى أننا لا نستطيع إهمال دراسة الهيئة عند تناولنا للثقافة الرسمية المصرية.
وتثير ثنائية الحضور والغياب جدلية الواقع الذى تعيشه الهيئة وما مرت به من تحولات وتغيرات وإصلاحات وتقلبات لاسيما فى الزمن الانتقالي، وتمثل هذه الثنائية وجهًا من وجوه التناقضات التى تعيشها المؤسسة، وبهذا تكتسب الدراسة أهمية كبري.
وإذا كان الحضور يقتضى زوال الغياب وهو ما لم يتحقق بعد فإن هذه الدراسة المُستمدة من البحث النظرى والميدانى تزعم أن المفسر الأساسى لذلك هى "الترتيبات المؤسسية" التى عملت وتعمل فى ظلها الهيئة حيث تُعمق فهمنا حول كيفية وصول المؤسسة الى وضعها الحالي. وتجيب على تساؤل: الى أين تسير المؤسسة فى الغد؟ ولا غرو فالترتيبات المؤسسية عاملًا أساسيًا يشكل هويّة المؤسسات ويوجه أدائها، لذا سنحاول الغوص فى أغوار المؤسسة لنستطلع الحضور المؤسسي، وأبعاده وامتداداته ومشكلاته وحقيقته، ونستكشف الغياب المؤسسى وأسبابه وآثاره. ما دعا بالبعض للتساؤل أهو حضور مادى وغياب معنوى أو بعبارة أخرى "كفاءة دون فعالية"؟
وثمة علاقة على المستوى النظرى المجرد بين أشكال "الترتيبات المؤسسية" وصيرورة الفعل الثقافى والاجتماعى كما تذهب إليه عدد من الكتابات. وتأثير لحجم وتعقيدات مؤسسات الدولة على التنمية الثقافية ومقدار دورها التدخلى سواء عبر القيود أو المحفزات فضلا عن عامل أخير وهو قدرات مؤسسات الدولة.
ويكتسب موضوع انخراط الدولة فى الشأن الثقافى اهتماماً متزايداً. ومنذ أن اضطلعت الدولة بشؤون العمل الثقافى أخذت الإدارة تظهر كعامل مؤثر فيه، لكنها تتشكل تبعا لطبيعته واحتياجاته، فهو فن له خصائصه وطبيعته لصياغة أساليب مُتجددة تساعده فى تحقيق أهدافه. ومن الدول المتدخلة مصر من خلال وزارة الثقافة وهيئاتها التابعة لها.
ويرى البعض أنه منذ تأسيس وزارة الثقافة المصرية والعمل الثقافى مسئولية الدولة بحيث طغت فكرة أنه خدمة عامة مُحتكرة لأجهزة الإدارة العامة وليس صناعة لها قواعد ومعايير واشتراطات وأدوات. ومع ذلك فإن قواعد "صناعة الثقافة" تدعونا للنظر لما يُسمى بـ"الاقتصاد السياسى للثقافة" ويُظهر هذا المفهوم رغبة جامحة لعدد من الشركات الاقتصادية والتجارية فى تنميط الثقافة وقولبتها لحيازة الربح ونيل القوة والتملك والسيطرة على المجتمع ووعيه. فمجرد النظر الى الثقافة باعتبارها "حرفة محضة" يطرح تساؤلات عن: تسليع الثقافة وماديتها والاستهلاك المبتذل والاختزال وفق التصورات المالية وبعيداً عن بوصلة الابداع الحقيقى الفني.
الأمر الآخر أنه على الرغم من تغيّر دور الدولة سياسياً والتحول من "نظام الحزب الواحد" الى "التعددية المُقيدة" واقتصادياً من "الاشتراكية" إلى نظام "السوق المفتوح" فإن ذلك لم ينعكس على المؤسسات الثقافية حيث ظلت الدولة ممسكة بتلابيب العمل الثقافى ما حدا بالبعض تسميته بـ"تأميم الثقافة" مع تواضع مشاركة القطاع الخاص أو مؤسسات المجتمع المدنى أو غيرهم من الفاعلين الثقافيين.
وهو ما يُلقى بالتساؤل عن إعادة تنظيم العمل الثقافى باعتباره مساكن توفر مساحات للإنتاج الثقافى وتُسهل طرق نشره وشيوعه تحقيقاً لأهداف حكومية مختلفة لصياغة المجال الثقافى والاجتماعى العام. إن انخراط الدولة فى المشهد الثقافى يُعَد تحديًا معقدًا يتطلب فحصه بعناية.
فأى دور ثقافى يمكن للدولة أن تقوم به فى القرن الواحد والعشرين؟ وكيف تعاملت توجهات الدولة الأيديولوجية بعد عام 1952م مع الوضع الثقافى للمجتمع فى مصر؟ وهل يمكن تجاوز صيغة "الدولة/ الإدارة الثقافية الأبوية" الى نهج أكثر "تعاونية وتفاعلية" مع المواطنين؟ هذه أسئلة يذهب إليها نفر من الباحثين.
وإذا كانت الأشكال الهرمية للسيطرة فى "الدولة / الإدارة الثقافية الأبوية" مُناسبة فى زمن من الأزمان فإنها تصبح – وفق البعض- فى ظل أشكال التدفقات الثقافية العالمية والعروض الثقافية التجارية الرديئة وتقنيات الثورة الصناعية الرابعة أقل ملائمة للتعامل مع التحديات الهيكلية التى يعانى منها القطاع الثقافى المصري.
وخلال مسيرة التطور التاريخى للتشكل المؤسساتى الثقافى المصرى أو ما يمكن نعته بـ"بقرطة الثقافة" BUREAUCRATIZATI
وتُعد البيئة التى نشأت فى كنفها وزارة الثقافة وباقى الهيئات الثقافية التابعة لها عامل جوهرى فى فهم الشكل التى اتخذته الوزارة وهيئاتها الى الآن، وأقصد بالبيئة تلك الظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والدولية والاجتماعية التى دُشنت فيها الوزارة وانعكست فى الترتيبات الإدارية وعلى علاقات القوة والهيمنة والسلطة داخلها. ولما كانت العلاقات البيئية – المؤسسية، أو البيئية – التنظيمية علاقات تتسم بالديناميكية الشديدة والحركية المستمرة فإن لها دورُ فى فرض قيود أو السماح بفرص لأنشطة وفعالية العمل الثقافي. فإلى أى مدى مثلت الظروف المرتبطة بنشأة الوزارة عاملاً مستمراً فى التأثير عليها لا سيما فى الزمن الانتقالي؟
وسنتناول بإيجاز وزارة الثقافة منذ تأسيسها كسلاح تنظيمى إبان العهد الناصرى - لتشييد المجتمع القومى العربى الاشتراكى - وصولاً للعقود الأخيرة. ويسلط الكتاب الضوء على بعض وثائق السياسات الثقافية باعتبارها مضموناً ايديولوجياً وموقفاً فكرياً ونتاجاً لواقع له حمولة معرفية وفلسفية، بيد أننا لن نستغرق فى تحليل النصوص مقدار انغماسنا فى الممارسات المؤسسية للثقافة حتى وصلنا لمرحلة الإرهاق المؤسسى نتيجة للتغيرات التى نالت منها.
ثم نحاول الإجابة عن سؤال أثر بُنية المؤسسات الثقافية (التشريعية والمالية والفنية والإدارية) على حالة التنمية الثقافية فى مصر؟ وكيف ساهم الجمود المؤسسى للوزارة وطائفة من هيئاتها التابعة – فى بعض الأوقات- فى وضعية الثقافة ما دفع لإفساح المجال لمخلفات الثقافة العالمية وفاقم من الظواهر السلبية وأشاع مظاهر السوقية التى فَتَّت فى عَضُدِ المنظومة القيمية.
تتصدر الهيئة العامة لقصور الثقافة بفروعها قلب التنظيم الثقافى الرسمى بل وبلغت من المنزلة مبلغاً جعلت البعض يصفها بأنها "هى فى حقيقتها الوزارة". وباعتبارها ساعد الدولة الثقافى الذى يصل الى أعماق النسيج الثقافى المحلى عولت عليها الدولة للإسهام فى تحقيق التنمية الثقافية. مرت الهيئة بتموجات عديدة وعاشت عصور انتقال يمكن تحقيبها (تقسيمها تاريخياً) بستة مراحل متميزة عبر قرن من الزمن تخللتها مرحلتين فاصلتين، بدأت بالولادة المجتمعية (1908 - 1958) ثم دلفت الى مسار المأسسة والإدارة الحكومية (1958 – الآن). ولم تكن مسيرة الهيئة فى مرحلة الإدارة الحكومية كما كانت فى زمن المبادرة المجتمعية.
وإذا كان للمؤسسات دورة حياة بيولوجية خاصة بها تشبه دورة الكائنات الحية فإنه لم تكد تمض سنوات على التأسيس الحكومى للهيئة حتى لاحت غيوم الاضطرابات الإدارية تتزاحم فى أفقها المؤسسي. فمع الإدارة الحكومية جمعت ما بين التأسيس والنمو فالموت التنظيمى ثم إعادة الإحياء وتنوعت ما بين الدمج مع هيئات أخرى وإعادة التنظيم ثم نقل الاعتمادات والوظائف وانتهاءَ بتحولها لهيئة عامة تقوم على مرفق من المرافق ذات الطبيعة الخاصة وتتمتع بالشخصية الاعتبارية. وكأنها فى هذا التعاقب يؤثر السابق فيها على اللاحق إن بالإيجاب أو السلب، بالمحاكاة أو بالتجديد.
ويرى الباحث أن الهيئة العامة لقصور الثقافة دانية القطاف تمتاز بمجموعة من الخصائص تميزها عن غيرها من الهيئات الثقافية الحكومية. وكان ستة دوافع وراء اختيار الباحث للهيئة والتى جعلتها متفردة عن باقى الهيئات الثقافية الحكومية الأخرى.
الدافع الأول تاريخى وهو أن الهيئة العامة لقصور الثقافة تعتبر من أقدم المؤسسات الثقافية الحكومية بل إن وجودها سابق على تأسيس الوزارة بموجب تفسير عدد من الباحثين.
الدافع الثانى موقعها الفريد بين المجتمع والسياسة الثقافية ذلك أنها ممثل الدولة الثقافى فى الأقاليم وما ينطوى عليه ذلك من علاقات تبادلية بين الدولة والمجتمع.
الدافع الثالث الانتشار فهى المؤسسة الأكثر توغلاً - مقارنة بأجهزة وزارة الثقافة الأخرى والتى تنحصر فى العاصمة - حيث تمتد فروعها فى المحافظات والقرى والمدن والمراكز. ووصل عدد قصور وبيوت الثقافة عام 2015م لأكثر من 550 موقع ثقافى متنوع ما بين قصر أو بيت ثقافة أو مكتبة. وفى سعيها لتحقيق لامركزية التنمية الثقافية قسمت مصر الى ستة أقاليم ثقافية لتأمين التنمية الثقافية على المستوى الإقليمي. وتنتشر قصور وبيوت ومكتبات الثقافة على مستوى المراكز والمدن فى محافظات الجمهورية. وتعمل الهيئة – وفق قرار إنشائها – على تحقيق التنمية الثقافية وتوجيه الوعى القومى للجماهير فى مجالات عديدة.
الدافع الرابع استخدمها ألوان ثقافية وفنية مختلفة فى تواصلها مع المجتمع. فهى تخاطب فئات عديدة وشرائح متباينة فى أكثر من 14 مجال من مجالات الثقافة العامة والسينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والفنون التشكيلية وخدمات المكتبات والمساعدات الثقافية. كما أن عليها إجراء الدراسات والبحوث فى مجال ثقافة القرية والطفل والشباب والمرأة ومجال التدريب وتبادل الخبرات.
الدافع الخامس كثافة القوى العاملة بها حيث يعمل بها أكبر عدد من العاملين بوزارة الثقافة حيث بلغ إجمالى العمالة على مستوى الهيئة 14430 عاملاً. أى أن عدد العاملين بها يعادل عدد العاملين بالوزارة كاملة وفقاً لإحصائيات دراسة قام بها الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة لعام 2014م/2015م وأكده تصريح ذكره رئيس الهيئة الأسبق أن عدد العاملين وصل الى 18 ألف موظف. وهو الأمر الذى يجعل نحو 71% من موازنة الهيئة العامة لقصور الثقافة مُوجه إلى بند الأجور وتعويضات العاملين، ونحو 18% إلى الموازنة الاستثمارية للثقافة! ما يعنى أن النسبة المخصصة للأنشطة لا تغطى المأمول.
الدافع السادس الموارد المالية حيث أنها الأكبر من حيث الميزانية مقارنة بباقى الهيئات التابعة لوزارة الثقافة فمثلا تستحوذ الهيئة العامة لقصور الثقافة على نحو ****% من إجمالى توزيع موازنات وزارة الثقافة على الجهات المختلفة وذلك خلال الفترة (2008م/2009م -2014م/2015م)، كما تستأثر بالجانب الأكبر من المصروفات العامة من موازنة الوزارة، بنسبة بلغت حوالى ****% فى عام 2014م/2015م.
ومع وجود دراسات سابقة عن الهيئة بيد أنها كانت ذات طابع تاريخى أو قانونى لا تشفى الغَلِيلُ أو تروى الضمآن، كذا لم تحظ بدراسة سوسيولوجية – مؤسسية. والحق أن الأبنية المؤسسية تُحدد الأدوار التى على شاغليها أن يقوموا بها أو يمتنعوا عنها، وتعيين ما هو مسموح وما هو غير مسموح، وبذلك يتحقق للمنظمات – عادة – القدرة على فرض سطوتها على منتسبيها بحيث يُذعنون لها بما تملكه من وسائل قوة وسيطرة، ذلك أن الأدوات التنظيمية مسئولة عن سلوك الأفراد عبر التلقين والتدريب. ولما كان ذلك كذلك فسنتناول بمبضع التحليل والوصف والمراجعة والنقد كل من "المضمون الأيديولوجى للهيئة" أى رؤى وأهداف وخطط وقوانين الهيئة العامة لقصور الثقافة –خلال فترة الدراسة-، وكذلك سنقوم بـفتح معاقلها أى "تشخيصها مؤسسياً"، بعبارة أخرى سنفتش فى آثار وضعها المؤسسى على مسارها من خلال عدسات أربع أساسية لننظر أيها أقرب للواقع، وهي:
- التعقيد ومآلاته بما يشمله من (التمايز الرأسى – التمايز الأفقى – التشتت المكاني).
- المركزية وتداعياتها (مقدار توزيع القوة فى الهيئة)
- الحجم وآثاره، ونتعرف عليه عبر تناول كل من (الميزانية – عدد العاملين، الأنشطة والفعاليات، متلقو الخدمة).
- الرسمية والنمطية (الحد الأدنى مقابل الحد الأعلى من العلاقات الرسمية – تكرار المنتجات والمخرجات)
ويمكن أن تكون بعض نتائج هذا البحث فى ضوء العينة المختارة راهنية وكاشفة عن المصير التاريخى والتطور المستقبلى لحالة بعض المؤسسات الثقافية الرسمية. ولا نغالى القول بأن دراسة البيئة المصرية هامة كونها أحد نماذج دول العالم الآخذ فى النمو.
اتسمت الفترة من (2009م – 2015م) بسياقات بيئية متغيرة وتخوفات على القيم والهوية الوطنية وبزغت دعوات بضرورة بناء الشخصية المصرية لما تعرضت له من تآكل. بالإضافة لقيام ثورتى 25 يناير 2011م، و30 يونيو 2013م، وحضور أنشطة لمنظمات ثقافية غير حكومية تنازع المؤسسة الرسمية الأدوار وتنافسها الوجود – وفق رؤية البعض -. وتعددت فيها الرؤى بشأن ضرورة إعادة هيكلة الواقع الإدارى والثقافى والسياسى والاقتصادى والمجتمعى فى مصر.
و"قد أوضحت التجارب المقارنة أن التحول الاجتماعى والثقافى لابد أن يرافق عمليات التحول السياسى والاقتصادي، وبدون ذلك يصبح التحول السياسى والاقتصادى مخاطرة غير مأمونة العواقب لغياب الأساس الاجتماعى المساند لها".
ورغم التغيير السياسى والاقتصادى الحاصل فإن النقاش العام حول مدى مساهمة الفنون والثقافة فى مرافقة هذا التغيير لا يزال فى حدوده الدنيا.
ويحاول الباحث إجراء تحليل مؤسسى للهيئة مفاده الكشف عن الحواجز التى تواجه الهيئة وكيفية التصدى لها، ومدى قابليتها وقدرتها لتأدية الوظائف المنوطة بها، وتحديد بُنيتها وأسلوب إدارتها وعملها مركزياً ومحلياً وعلاقات القوة والنفوذ بين الهيئة وبين باقى الأطراف الثقافية الفاعلة ومدى الثبات والتغير فى دورها خلال تلك الفترة، ونقاط القوة والضعف فى أداءها. وإلى أى مدى لا تزال الأهداف التى كانت مرغوبة فى الماضى صالحة اليوم؟
ولما كانت المؤسسات والهيئات التابعة لوزارة الثقافة عبارة عن تنظيمات مترابطة ومتشابكة وفى حالة من التفاعل أو الحركة فيمكن محاولة فهمها عن طريق النظر إليها كموجودات مُكبلة أو مُحررة تاريخياً. سنتناول أهم خمسة عوامل قد تكون مُشجعة أو مثبطة للتفاعل بين المؤسسات الثقافية وبعضها البعض، وتعد ظروفاً قبلية هي: (الوعى – الاتفاق أو اللا اتفاق على المجال – التقارب الجغرافى – تمركز الاعتماد - الحجم). وقد جرى التساؤل عن مقدار درجات الاعتمادية المتبادلة بين هذه الهيئات الثقافية وأخواتها من جانب وبينها وبين المؤسسات الأخرى من جانب آخر، وهو ما يتصل بـفهم "علاقات القوة".
تتخذ هذه الدراسة ثلاثة مقولات كمنطلقات رئيسية: أولها أن الجمود المؤسسى يؤثر على وضعية الثقافة، وثانيها أن الإرث المؤسسى والأيديولوجى يُلهم أو يُقوض الفعل الثقافي، وثالثها أن الإصلاح المؤسسى يتأثر بمصالح البيروقراط ورؤية صناع القرار.
سوف تختلف دراسة الباحث عن غيرها من الدراسات من حيث أنها ستنتهج أسلوبى البحث الكمى والكيفى (النوعي). وتركز على أدوات ووسائل إدارة السلطة الثقافية، أى مدى حداثتها ونجاعتها.
ويستمد البحث أهميته النظرية من كونه يحاول التعرف على وجهات نظر صناع القرار من بعض وزراء الثقافة ورؤساء الهيئة العامة لقصور الثقافة السابقين خلال فترة المرحلة الانتقالية.
لغز الكتاب
جاءت عدد من الشواهد الواضحة الدالة على كل من "الضعف"، والـ"تراجع" فى المؤسسات الثقافية عامة ومن بينها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وسوف نكتفى بالإشارة الى ثلاثة منها، وهي:
أولا – أبرزت رؤية مصر 2030م فى بعدها الثقافى اثنى عشر تحدياً كان منها ضعف المؤسسات الثقافية والتراثية وتضارب اختصاصاتها وغياب التنسيق بينها، والتفاوت فى إتاحة جودة الخدمات الثقافية المقدمة بين المحافظات، ومحدودية فعالية الخدمات الثقافية فى التنشئة، وشهد المنتج الثقافى المصرى تراجع نسبى لدائرة التأثير إقليمياً ودولياً. وحددت الرؤية ثلاثة أهداف استراتيجية للثقافة كان منها رفع كفاءة وفاعلية المؤسسات الثقافية والعاملين بالمنظومة الثقافية بما يتلاءم مع واقعنا وظروف المرحلة.
وطالبت الرؤية بضرورة مراجعة التشريعات والقوانين ذات الصلة بالصناعات الثقافية وحماية التراث وتطوير وإعادة هيكلة المنظومة الثقافية ورفع كفاءة إدارة البنية الأساسية للخدمات الثقافية وتوسيع نطاقها. كل ذلك ضمن ثمان برامج فى البعد الثقافى يفترض العمل عليهم.
ثانيا – أشار برنامج الحکومة (مصر تنطلق) فى مارس 2019 الى أن "معدل النشاط الثقافى تراجع قبل 2014 بصورة کبيرة، لذا حاول برنامج عمل الحكومة المصرية خلال الفترة من 18/2019 إلى 21-2022 طرح أربع جوانب من ذلك سعيه لتطوير منظومة العمل الثقافى والمؤسسات الثقافية بالشراکة المجتمعية مع مختلف الأطراف.
ثالثا – توجيه رئيس الجمهورية فى ديسمبر 2019 بإعادة تأهيل أحد أهم مؤسسة ثقافية منتشرة فى ربوع الجمهورية وهى قصور الثقافة.
لذا لن نفتش فيما إذا كان ثمة "تراجع أو ضعف" فقد كفتنا تلك الشواهد مؤونة البحث والتأمل، إنما يسعى الكتاب الى تفسير تلك الحالة من "الضعف أو التراجع" التى أصابت المؤسسات الثقافية والهيئة العامة لقصور الثقافة خير من يُمثل "الترتيبات المؤسسية" التى تكابد الزمن للبقاء.
فهل يمكن فهم هذا "التراجع" فى ظل ارتباط الهيئة بالمحليات؟ أو يتسنى إدراكه فى إطار التقلبات البيئية والسياقات المختلفة خاصة إذا علمنا أمرين، الأول أنه خلال الفترة 2012م شهدت الهيئة إعادة تنظيم لهيكلها التنظيمى والوظيفى وإعادة تقسيم للأقاليم الثقافية على مستوى الجمهورية. وثانيا أن تلك الفترة (2009م حتى 2015م) مُنيت بدرجة عالية من التعاقب السياسى والإدارى حيث تولى 13 وزير الوزارة، - بمعدلات تغيير سريعة وغير مسبوقة - أى بمعدل تغييرين لکل سنة! فيما يحاجج آخرون بأنه كلما تضخمت المؤسسة ازدادت تعقيداً ورسمية ونتيجة لذلك يتراجع أثر التعاقب السياسى والإدارى عليها، وتصبح مقاومة لأى تغييرات. ومع كل ذلك فإن الأدبيات الإدارية تشير الى أن المؤسسات ذات الأداء المحدود تغدو معدلات التعاقب الإدارى فيها مرتفعة حيث يكون كبش الفداء فيها هو رئيس الجهة لنزع فتيل التوتر ومحاولة تحسين الأداء حتى لو كان من يقوم بذلك يُدرك أن الإصلاح المؤسسى يأخذ وقتاً طويلاً.
ومع وجود أجهزة تمارس العمل الثقافى إلا أنه لا نجاح لتلك الأجهزة فى تحقيق أهدافها الثقافية إذا ما أهملت الأبعاد الإدارية ولم تراجع وضعها المؤسسى كل حين.
وتؤثر كل من الترتيبات المؤسسية للقطاع الثقافى وحجم وتعقيدات مؤسسات الدولة تأثيراً كبيراً على حالة التنمية الثقافية ومن ثم على التنمية الشاملة وعلى صياغة ملامح المجتمع.
ورغم مرور ربع قرن على قرار إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة فإنها لم تحظ بدراسات سابقة كافية تُركز على الطرق التى تُشكل بها "الترتيبات المؤسسية" "الثقافة".
من هذا كله تظهر الحاجة الى "تشخيصها مؤسسياً" ومعرفة "التصاميم المؤسسية" التى وضعتها الحكومة ويتحرك فى جنباتها النشاط الثقافي. وتتمثل المشكلة البحثية فى التساؤل الرئيس التالي:
إلى أى مدى أثرت الترتيبات المؤسسية وقوة الإرث المؤسسى على مستوى أداء الهيئة العامة لقصور للثقافة ومن ثم على حالة التنمية الثقافية فى مصر؟
وهل يمكن إحراز "التفعيل" المنشود و"رفع الكفاءة" المبتغاة فى ظل نفس الترتيبات المؤسسية التى أنتجت ظاهرة "الضعف والتراجع"؟