يد عمياء - أكرم محمد
مجموعة بديعة من قطوف الأدب، سرعان ما أدخلتنا في عوالم ساحرة، يتلاعب أكرم محمد بمقادير اللغة المعتادة، ويحولها إلى نصوص تعانق الموت والحياة، وتداعب الأرض والسماء، وتلتف مع الظلام والنور.
كانت الأيادي العمياء تبطش بكل حلم وتعبث بكل أمل وتجهض كل رجاء، جعلتنا ننسى المعاني ونفقد الأنساق، حتى صرنا هشيماً من فتات الأرض، أو تبناً طائراً في الهواء، أو علكاً ملفوظاً من فم السماء.
وجدت في الكتاب ثلاث بحيرات حائرة بلا شواطئ (بحيرة الموت وبحيرة الإعدام وبحيرة الأرض)، تمخرها سفن عابثة تدور في دوائر كبيرة، ومحاطة بقوارب نجاة صغيرة، عندما كان يصيبنا الدوار في السفن كنا نقفز إلى القوارب كي نرتاح قليلاً، فنجد القوارب تدور في دوائر أنصاف أقطارها أصغر، ودوارها أشد.
وجدنا اليد العمياء تلوح داخل كل السفن والقوارب، هي ليست مجرد يد هي كيان كامل، على رأسه تاج الملك وعلى جسمه عباءة الكاهن، وفي النصوص وجدنا الموت والقطار الأخير والرب ومعاونيه، ووجدنا الحارة والمقهى، وصورة الملك والكاهن، ووجدنا قلب الميدان والتسيير والتخيير والصوت والدمعة، ووجدنا الإعدام وما قبله وبعده وأثناءه، ووجدنا اللجنة والبوابة والموتوسيكل والميكروباص وجزيرة الأساطير، ووجدنا الظلام والآلام والطاولة الخشبية، وتاج الملك وقبعة الشرطي والعمامة والذقن، ووجدنا الأنهار والأقدام والتراب وعتبات الجنة والتمثال، ووجدنا الكل دخلوا الفردوس الأقرب من الواقع والأبعد عن الجنة.
من داخل النصوص، تذكرت تجريدة صلاح عبد الصبور عن سيف اللاجدوى عندما يهوي وصحراء اللافعل عندما تتمدد، وخيارات الفأر المذعور ما بين السيف وبين الصحراء، حتى يثوي أخيراً في جحر اللارغبة واللاجدوى واللافعل، ويموت.
كانت اللغة تهرب من النثر إلى الشعر خطفاً، وتحوم حول فن المقامة، مقامات الهمذاني والحريري، ولكن سرعان ما كان يعيدها النثر إلى حظيرته، وبرغم ذلك أخضعت اللغة المتمردة ذلك النثر المتوتر، فاستسلم لها ومضى معها، وقادته إلى عالمها السحيق.
استحق الكتاب تلك المقدمة البديعة من الأديب الرائع "كبير السحرة" طارق إمام، ورأيناها شهادة ميلاد لساحر جديد اسمه أكرم محمد.
ناصر اللقاني