رواية «الماتادور» أو رحلة البحث عن المعنى.
بقلم الدكتور المهدي مستقيم. صحيفة القدس العربي.
يزاوج الكاتب المغربي أنس العاقل بين كتابة السيناريو والمسرح والرواية والتمثيل السينمائي والتلفزيوني والمسرحي. وتعد رواية: «الماتادور» الصادرة حديثا عن منشورات دار المحروسة (القاهرة، مصر- 2023) ثاني أعماله الروائية بعد رواية «هكذا تحدثت الشجرة». تعالج أحداث الرواية شخصية حسني- مُدَرّس اللغة الإنكليزية وعازف الكمان- الذي صادفت دعوته للمشاركة في فعاليّات موسيقية ببيروت، لقاء صديقته الشاعرة «ديما شماس» التي لم تتردد في استضافته في بيتها لحضور لقاء شعري، ليتعرف على إثر ذلك على «زياد» وزوجتيه «ريم» و»صبا» وهؤلاء لم يترددوا بدورهم عن دعوته إلى حضور فعاليات بشارة مريم، حيث يجتمع المسلمون والمسيحيون بجميع مذاهبهم من أجل الاحتفاء بـ»مريم» أم المسيح. وهناك، سيلتقي بالمعلم «كامل» لبناني قضى مدة في الهند، ثم عاد لينشئ على هضبة جبل كسروان «روضة العشق». لتستمر فصول الرواية بعد ذلك في رحلة سردية شيقة بين المغرب وإسبانيا.
تتغير شيفرة الكاتب الضمني بين الفصلين الأول والثاني، إذ نجد الفصل الأول الذي تدور وقائعه في لبنان يمتح من البلاغة الشعرية، بحيث يحضر «حسني» فعاليات «بشارة مريم» والحلقات الروحانية للمعلم كامل، كما يحضر في الوقت نفسه جلسة شعرية، ويتم التعبير عن ذلك بتوسل أسلوب تعبيري بليغ وشاعري، غير أنه سرعان ما يتغير بعودة السارد إلى المغرب ليصبح أسلوبا حجاجيّا وسرديّا يقوم على أساس الحدث. هذا التناقض بين عالمين؛ عالم ميتافيزيقي وحالم لا يمكن وصفه إلا من خلال استعمال البلاغة، وعالم آخر مفرط في واقعيته يبرز من خلال تغيير شيفرة الكاتب الضمني إمعانا في إبراز الفارق.
ينهل السارد في تشييد حبكة نصه السردي من مشارب ترنيمات أغنية خوليو إيغليسياس، إذ وظف أغنية «ماء حلو وماء مر Agua dolce Agua sala» بوصفها لعبة المرايا التي تعكس ما ستعيشه شخصية حسني، هذا الأخير الذي ما برح يتأرجح على امتداد خيوط الرواية السردية بين ما تفضي إليه الحياة من تناقضات؛ بين اللذة والألم، الحب والفقدان، الانقباض والانبساط، إلخ ليخرج من ثم، من هذه الشرنقة الجهنمية ويبدأ رحلته نحو الانعتاق، دون أن يعفيه ذلك من تلمس تجربة الألم ومواجهة نوازعه الذاتية الخبيثة وما تسفر عنه من غوايات وأهواء تدميرية.
وقد آثر السارد تشييد حبكته السردية على أساس الحدث والسرد البصري، غير أنه لا يبرح يحتفي في مقابل ذلك بمسارات المعرفة، من خلال تحريض شخوص الرواية على الدخول في جدل فكري قوامه تساؤلات أنطولوجية تتطلع إلى المعنى، فضلا عن استحضار روح الدعابة والسخرية والتهكم في الكثير من مقاطع الرواية، إذ تتناظر الشخصيات في ما بينها، بحيث تتقابل رؤية «حسني» للعالم – مفتش الفلسفة النيتشوي – مع رؤية «سامي» مدرس الرياضيات، الذي يزاوج بين التفكير الرياضي المنطقي والإيمان الديني، ورؤية مدرس الإنكليزية وعازف الكمان الذي يعيش الحياة كتجربة إستيطيقية. هكذا يواجه قارئ نص «الماتادور» مسارات معرفية إنسانية تفوّق السارد في صوغها وتطريزها على نحو سلس، ضمن قالب سردي يتطلع إلى المعنى.
وتمثل الشخصيات النسائية التي تؤثث مشاهد النص السردي، ثقافات تنهل من مرجعيات مختلفة ومتباينة، ونخص بالذكر: «ريما» و«ديما» و«صبا» و«صفاء» و«فنيدة» و«خوانيتا». وتكشف مسارات السرد عن رؤى متباينة إزاء العلاقات الزوجية، ومرد ذلك إلى تفرد كل التجارب الذاتية لكل شخصية على حدة. ولعل موضوع العلاقات الزوجية وما تسفر عنه من مآلات يظل مركز البؤرة السردية. غير أن السارد لا يبرح يطرح أسئلة أخرى تنهل من صلب هواجس المتلقي المعاصر، كما يلقي الضوء على الدينامية الفكرية والتحولات الثقافية التي يعرفها المغرب المعاصر.
ينبجس عالم مصارعة الثيران ضمن اللعبة السردية، من خلال شخصية مصارع الثيران «أباريتشيو» الذي ينتهي مشلولا بفعل ضربة قاتلة من الثور الإسباني، ليكون هذا الحدث بمثابة تقعير لمصير البطل «حسني» الذي سيقرر الانفصال عن علاقة من شأنها أن تربطه بعالم مصارعة الثيران. هي ذي مفارقة الشخصية الروائية، بحيث تجتمع النقائص داخل شخصية «حسني» ونقصد المزاوجة بين رهافة الإحساس الموسيقي، وشغف التعلق بلعبة دموية وحشية قاتلة.
لا ريب في أن السارد حسني يمسك بخيوط اللعبة السردية إمساكا متقنا، لاسيما أنه لا يتوانى عن توظيف ضمير المتكلم، بوصفه وسيلة للعلاج النفسي الوجودي. تدور أحداث الرواية بين لبنان، والمغرب، وإسبانيا، وتهدف إلى إطلاع القارئ على تجربة إنسانية ومعرفية لا تخلو من تفرد على مستوى الكتابة والإنجاز، إذ أنها تكشف عن تلك المناطق المعتمة في سيكولوجية النفس البشرية، بحيث لا يستقيم أن نصنف الإنسان وفق مقاييس الأبيض والأسود، ذلك أنّ شخصيات الرواية تتأرجح بين مختلف تدرجات اللون الرمادي.