نادرا ما يلجأ احسان الى القصة الرمزية الا أنه هنا مغرق في رمزيته لدرجة لا تصدق معها أنك تقرأ لكاتب الشباب و المرأة و لو أنه اختار أن تكون المرأة أيضا رمزا لمصر و محورا لقصته لاسترداد شرف مصر التي فقدته.
اختار احسان عباس بيه ليمثل دور عبدالناصر الذى وعد مصر ثم رحل عنها فجأة و هي مكللة بالعار ثم أشاد بدور عبدالحميد وكيل الجمعية الزراعية الجديد و حنبلته في التعامل بما يرضى الله و استعادة العدل في كل القرية بسلوكه الجديد و كأنه يمدح في السادات الذى كان في بداية حكمه يعد بمستقبل أفضل و في النهاية يلوح بأن الرصاصة لا زالت في جيب الشعب ليطلقها وقتما يشاء! فهل كانت تلك الرصاصة هي التي قتلت السادات بعد ذلك بعدة سنوات؟!
01
ولم أجد طريقًا مفتوحًا أمامي إلا أن أضع نفسي في التدريب العسكري داخل الجامعة وأمسكت بالبندقية لأول مرة في حياتي.....وبدأ فكري يتطوّر، إن التدريب العسكري لن يحقّق لي ما أسعى إليه، لن يجعل مني قاتلاً لعباس بيه، ورغم ذلك فقد تغيّرتُ في هذه الفترة، بدأتُ أصبح إنسانًا آخر، هذه الجدية في الأوامر التي يصدرها لنا المدربون، وهذه الاهتمام الكبير بتربية القوة البدنية، وهذا الإحساس المستمر بأننا يومًا ما سنجد الرصاص في البندقية التي نحملها ونطلقه، كل هذا بدأ يضع خطوطًا جديدة في شخصيتي، وبدأ يأخذني بعيدًا عن عالم الفلسفة والأدب الذي أردت أن أعيش فيه، وهذه الشخصية الجديدة تقودني أيضًا إلى العالم الذي أعيش فيه اليوم، قادتني إلى الجيش
02
كان الموعد بعد أسبوعين، سأترك الثكنة في إجازة، وأذهب إلى القرية، ويتم التنفيذ، واسترد شرفي وشرف العائلة، وشرف القرية، واسترد فاطمة، ولكن..فجأة صدرت الأوامر بالتحرك إلى سيناء
03
يا رجل، إنك تكاد تصل بي إلى الجنون، جنون اليأس منك ومن أمثالك، أقول لك سيناء فتعود تسألني عن فاطمة وعباس، رجل في ثقافتك بدل من أن يشغل عقله وفكره بسيناء وبما جرى لسيناء يشغله بعباس وحكايتي مع عباس، معلش لست وحدك إننا نحارب والناس مشغولة، بسعر الجنيه وأزمة البصل واختفاء الفول، وأحب أن أقول لك إن سيناء شغلتني عن عباس، كدت أنساه أيامًا وليال كثيرة نسيته فيها، ليس معنى هذا أن سيناء أنقذت عباس مني، ومن خطتي للتخلص منه، ولكنها فقط شغلتني عنها، أجلت موضوعه، لم يكن معقولاً أن أواجه اليهود وسلاحي في يدي وحياتي لحظات، ثم أفكر في عباس، لو كنت معي لكنت نسيت عباس أنت الآخر، ولكن هكذا كل منا يفكر في نطاق المكان الذي يقف فيه، الذين يفكرون في الحرب هم فقط الذين يطلقون النار، أما الواقف على محطة الترام فلا يفكر في شيء إلا الهروب من دفع ثمن التذكرة
04
إن طائرات اليهود فوق رؤوسنا، والنار ونحن نتحرك لا أدري إلى أين ولكننا نتحرك.. ونحن نصوب أسلحتنا إلى الطائرات لا نرى إلا طائرات، وسقط محمود وعبد الهادي وعلي، يا أولاد الكلب، إنهم يقتلوننا.. إخوتي، كلهم راحوا، لم يبق إلا أنا وأخذت أطلق النار على الطائرات، إنني أطلقها في الهواء، سلاحي ليس سلاح إسقاط طائرات.. وتنبهت لقد أصبحت قائدًا لنفسي، لم يعد لي قائد إلا عقلي، وعقلي يقول لي: إني لن أستطيع الآن أن استرد شرفي، شرفي المهزوم، وألقيت بنفسي بين جثث إخوتي، ادعيت الموت، وحتى هذه اللحظة لم أكن أتمناه، لم أكن أتمنى الموت حتى لألحق به بإخوتي تضامنًا في مصير واحد.. وإنما كنت أتمنى أن أعيش لا من أجل الحياة، وإنما من أجل الانتقام
05
وتركتُ القرية، عدتُ إلى الجامعة، وفوجئت بعد أسابيع بفاطمة بجانبي، لقد جاءت من القرية مع أخيها الصغير بحجة زيارة خالتها، وهي تبكي وفي عينيها مأساة، إنها تقف أمامي كأنها على حافة بئر تكاد تقع فيها، وعرفت كل شيء وسعيت وحاولت حتى حملتها إلى طبيب يستر فضيحتها، وفضيحتي، وفضيحة القرية كلها، وأحاسيسي كلها تتجمع في ثورة عارمة على عباس، على كل ما فعله عباس بنا وبقريتنا
06
نعم عرفتُ، لقد ترك عباس القرية، قيل إنه نقل، وإنه رُقي إلى منصب كبير، وقيل إنه استدعي للتحقيق معه، ولا أحد في القرية يعرف الحقيقة، كل الحقيقة التي يعرفونها هي أنه ذهب، اختفى
07
وفي عام 1970 يغادر عباس القرية فجأة , بعدما ترك فاطمة الخزي والعار..هل يشير إحسان بهذا التاريخ إلى رحيل عبد الناصر المفاجئ في سبتمبر 1970 ؟!
08
فاطمة ابنة عمي، حبيبتي، إنك لا تستطيع أن تتصور مدى حبي لفاطمة، ولا كيف احببتها، إنه حب تضعف أمامه الكلمات، بل إن فاطمة وأنا لم نكن نتصور أن ما بيننا اسمه حب، إنه إحساس ولدنا فيه، وعشنا فيه، وسنموت فيه، إنها الحياة نفسها، ودون أن أتعمد كانت شخصيتي تتكون وتتطور بتأثير حبي لفاطمة، وكنت أبني نفسي من أجل فاطمة ..وإصراري على تكملة دراستي الثانوية والالتحاق بالجامعة كان لأني أريد أن أقدم لفاطمة إنسانًا يفرحها وتفخر وتعتز به، وعندما قررت أن أقتل فلأني لم أجد طريقًا آخر لأنقذ به فاطمة إلا القتل
09
لقد أحببتُ عباس عندما التقيتُ به، وأصبحتُ صديقًا له وكنت أسعى إليه أكثر مما يسعى إلي، ولم تهتز هذه الصداقة إلا بعد أن وجدت أن عباس أصبح صديقًا لعمي عبد الله..أتدري ما هي الجمعية التعاونية، إنها السلف الزراعية، وهي الكيماوي، وهي المبيد، وهي التراكتور، إن التراكتور كمدفع الميدان يسيطر سيطرة كاملة، ولكنه يسيطر سيطرة عكسية على سيطرة المدفع، فإذا ضرب التراكتور أرضك ليحرثها فأنت منتصر، وإذا تخلى عنك، ورفض أن يضربها فأنت مهزوم، والمدفع في يد عباس وقد وضعه في خدمة أرض عمي، ووضع في خدمته السلفيات الزرعية مهما تمادى في تزوير أوراقها
10
لا، لن أتزوج الآن فاطمة، إن الزواج حياة كاملة، والحياة لا تكمل ما دمت أحمل هذه الرصاصة الواحدة في جيبي
11
القرية، طبعًا عدتُ إلى القرية، وفوجئتُ كأني عدتُ إلى عالم جديد، لقد استقبلت وكأن كل أهل القرية، كانوا يقاتلون معي، أو كأني كنت أقاتل، من أجل كل واحد منهم، الحياة كلها أصبحت كأنها معركة، حتى عوضين الفلاح رأيته يضرب بفأسه في الأرض كأنه يحاربها، يحاربها حتى تعطيه حقه، وفاطمة كم تغيرت فاطمة، كأنها لم يكن في حياتها حادث، وكأن عباس بيه، لم يكن في القرية أبدًا، لقد استقبلتني كأنها الفتاة الصغيرة التي أحببتها منذ كنت صغيرًا، استقبلتني والحياة تنبض بكل ما فيها، في عينيها، في وجنتيها، بين شفتيها، بل إنها تطورت إلى حد الجرأة، فقد اندفعت إلى لمجرد أن رأتني، وألقت بنفسها على صدري، رغم أن عمي كان جالسًا معنا وهي تكرر الحمد لله على السلامة الحمد لله على السلامة...إن عمي الآن لا يستقبل البهوات فقط داخل الدار، إنه يجلس مع الفلاحين على المصطبة، تصور
12
وستبقي الرصاصة في جيبي ما دام هناك يهودي على أرضي