ساطع : نوافذ مشرعة في أدب الناشئة
بمتابعة النتاج العربي الموجه للناشئة ، ثمة توجه ملحوظ ، ناشط و جميل ، بدأ يغذي المكتبة العربية و يحاول مواكبة نتاج المكتبة الأجنبية في هذا الصدد . و مع ما وصلت إليه النتائج المُرضية في أدب الطفل نلاحظ أن أدب الناشئة – لدينا – بدأ يخطو خطواته الواثقة التي صنعت فارقا في السنوات الأخيرة ، حيث بدأت دور النشر تعتني بهذه الفئة و تحاول تقديم ما يمس اهتماماتها و يناقش تحدياتها .
ثمة تجارب ملحوظة ، تحترم الناشئ ، و سنه القافز على الطفولة و المتطلع للنضج ، و تقدم له الرواية التي تهرب من سذاجة الطرح ، و قوالب الوعظ ، و تخوض مغامرة اجتذابه كقارئ يلاحق الحكاية و يستمر في تتبع امتداداتها ، و ربما نستطيع القول ، بنبرة حاسمة و حازمة أن رواية الفتيان لن تكون مؤثرة إن لم تؤثر أولا بالقارئ الناضج . و على هذا الأساس بدأت بتلقي رواية ساطع ، للكاتبة الكويتية إستبرق أحمد و الصادرة حديثا عبر منشورات تكوين .
و الحقيقة ، حين صافحت السطور الأولى للعمل ، تشكل لديّ سؤال مُحفز ، فضولي ربما ، يدور حول شكل النص و تقنيات كتابته و مدى قابلية وصوله لوعي المتلقي الناشئ ، فمن قرأ لإستبرق أحمد و فهم مسارها الأدبي يدرك أنها كاتبة لها خط مختلف ، و صوت سردي خاص ، أكاد أقول أنه لا يشبه سواه . فمن قرأ نصوصها القصصية يعرف أنها تكتب بطريقة معيارية إبداعية كأنها تنسج بالإبرة و الخيط ، و غالبا ما تحتاج نصوصها لمعاودة القراءة و نبش العبارة و المفردة ربما ، و مناقشة الأسئلة ، في رحلة قرائية لابد أن يسعى فيها المتلقي للذة الوصول و متعة الكشف ، فكيف ستكتب إستبرق للناشئة يا ترى ؟
بالطبع ، قدمت إستبرق قبل ساطع لمكتبة الناشئة إصدار " الطائر الأبيض في البلاد الرمادية " ، غير أن العمل و إن صنفه البعض ضمن أدب الطفل إلا أنه بدا لي غير محدود بهذه الفئة ، نعم ..طوعت الناصة المكونات الساحرة ، المعتمدة في أدب الطفل لصنع تركيبتها الخاصة، كالطيور الناطقة و الأعمدة المؤنسنة و البحيرات الآسنة و القطط الجشعة ، لكنها ناقشت عبر تلك التركيبة العديد من قضايا الناضجين ، كالفساد و الاغتراب .
و الأمر مختلف تماما في " ساطع " .
هل نقول أن تجربة ساطع هي تحد تخوضه الكاتبة ؟ هل هو الارتقاء على القديم و صناعة الجديد الذي يعلن عن فرادته ؟ ربما .
النص و الحكاية :
على غير عادة نصوص اليافعين ، التي تركز على حبكة ذات مسار واحد ، تقدَّم من خلالها الحكاية عبر تقنية المشكلة المركزة التي تدور في فلك واحد ، و امتداداتها و من ثم الحل ؛ تصنع الناصة في ساطع حبكات متداخلة تتضافر لتنسج وحدة الحكاية العضوية ، تلك الحبكات تتناغم مع اختلافها ، و تنسجم مع فرادة كل منها ، فتشبه قطع البازلت التي تتكامل لتكوين اللوحة النهائية ، فالنص يقدم حكاية عزيز " زيزو " ، فتى العاشرة المولود بعينين ذات لونين مختلفين ، و الذي يتنمر عليه الأقران في المدرسة فيميل إلى الوحدة و تجنب مواجهة وحوش مشاعره ، لكن ذلك لا يعني أن النص محصور بفكرة الاختلاف و التنمر ، إنما يأخذ متلقيه – عبر الحبكات – لمواطن أخرى ، فنجد النص يميل بنا إلى معضلات أخرى : كمرض الجد زيد ، و غياب ابن الخالة أكرم ، و الشوق للوالد الغائب . و مع إعطاء كل معضلة مساحتها الممكنة تتشعب بنا الناصة عبر الحبكات الخارجية لنغوص في الحبكة الداخلية التي تشبه حكاية في جوف حكاية فنتعرف على ساطع : الزجاجي المختلف القادم من عالم بعيد و الذي يقاوم شعور الغربة و يسعى للتكيف و كسب القبول .
هذا الاشتغال على المستويات عرفني على لعبة النص الممتعة و تحرره من قيد الفكرة الواحدة المركزة إلى المعالجة المتعددة ، التي تشبه الحياة تماما في تعدد وجوهها ، و مواجهاتنا اليومية المتداخلة .
اللغة ..لعبة الكاتبة الأصيلة :
نحاول في الكتابة لليافعين تقديم الفكرة بتقنيات لغوية تسهم في إيصالها طيعة ، فتصير اللغة ناقلا حساسا للدهشة و القيمة . الناصة اعتمدت في كتابتها على اللغة الواضحة ذات الأبعاد ، تلك التي يمكنها أن تقول ما تريده الحكاية ، و تصنع مع ذلك إحالات متوالفة ، فلا نعجب أن يسمى الجد مصباح ، و لا نعجب أن يلقب فتى العاشرة بـ فلاش .
و من جهة أخرى ، ترفع الناصة ذائقة المتلقي الناشئ عبر تشكيل لغوي يعتمد على العبارة السخية التي مع وضوحها المناسب لتدفق الحكاية تسهم في تفعيل ذكائه اللغوي و تنمية مهارة تشكيل اللغة .
تقول الناصة :
" رفع رأسه في شهيق الصباح الباكر "
" الأسف سيخفف الخطأ ، أما الصبر فهو ما سيهبك العطايا "
كما أن اللغة في النص كانت عدسة أخرى لوصف المكان ، بجغرافيته المتعددة ، من فيحاء الكويت و سواحلها إلى طيور النحام في الشويخ و الدوحة ، و من الفيوم بحقوله و غيطانه الملغزة و أشجاره و غلاته الزراعية و بحيراته التي تحمل خلف أسمائها قصصا و أساطيرا إلى برودة النرويج ، ثم تأخذنا اللغة المضيافة إلى العالم البعيد الذي أقبل منه الزجاجي ، بعد تأثيثه بطبيعة خاصة تتناسب مع شخوصه الزجاجية الشفافة .
رسائل النص بين التبطين و المعالجة الواضحة :
يُضمن النص عدة رسائل ذات أبعاد إنسانية ، يمررها إلى وعي الناشئ بتقنيتي : المعالجة المباشرة و تبطين القيمة .
في النص نجد التصريح بقيمة قبول الذات أولا ، ثم فهمها و مواجهة النواقص و التركيز على جوانب القوة ، فالنص يصرح باختلاف عدد من شخوصه :
أ-زيزو فتى العاشرة ذو العينين المختلفتين اللون .
ب-أروى الفتاة التي تتقبل قصور قامتها و تحب تفوقها الدراسي و قوة إرادتها .
ج-ساطع القادم من عالم مختلف ، الهش ، الذي يخاف أن يضيء فينكسر لكنه يقوى بمحبة المحيطين و قبولهم .
غير أن المعالجة لا تتوقف عند هذا الحد بل تمرر رسائلها عبر تقنية التبطين ، فتشبه القراءة هنا لعبة التقصي و إكمال رقع الأحجية ، فيستوقفنا أن شخصية النص " زيزو " ابن لكويتي من أم مصرية ، و في تلك رسالة جميلة جدا لنبذ التعصب و احترام الآخر ، فللشخصية هويتان ، وأسرتان ، و وطنان ، يفيض عليهما كليهما بالحب و الحنين و مشاعر الانتماء .
كما أن الناصة التلميح بهويات الشخوص عبر الأسماء ، و هذا تركيز منها على قبول الآخر ، فتختار لصديق ساطع اسم " مارو" و لأخر اسم " بيشوي " ،و هذا تضمين في غاية الذكاء .
في جانب غير بعيد ، نلمس هذه الرسائل في معالجة الجد و الجدة لتوطين " ساطع " من خلال تعليمه العادات الغذائية التي تناسب العالم الجديد ، و خياطة الثياب التي تمكنه من الانسجام بالمجتمع ، و إلحاقه بالمدرسة ، كل تلك الصور تمرر للناشئ رسالة هامة ، مفادها أن لكل مشكلة حلا ، ما ووجهت الاعتراف أولا و الشجاعة ثانيا ، و عولجت بالسعي و القبول .
هذه الرواية ، إثراء فعلي لمكتبة اليافعين العربية ، بأحداثها الماتعة ، و مزجها بين المغامرة المدهشة و ما بين الأساطير و الأحاجي و ألغاز الخيال العلمي ، و لوحات الفنانة إيناس عمارة ذات الدلالة النافذة ..تفتح أبوابا لإمكانية وصول رواية اليافعين العربية إلى مستويات جميلة جدا .