أورويل هو أحد هرلاء الصحفيين الذين يغيرون وجهة نظرك تماما عن الصحافة، فهو ليس تقريريا يكتفي بنقل وسرد الأخبار سردا سلبيا مملا، ولكنه دوما له نظرة مستقبلية تبنى على أساسات الواقع الذي يحياه بنفسه وليس بالوكالة، فعندما يكتب عن الفقر والتشرد في روايته متشردا في لندن وباريس، فهو يكتب عن تجربة عايشها وكابدها لينقلها لنا بصدق وإخلاص يجعلنا نرى الفقراء والمتشردين بشكل مغاير تماما يمنحنا القدرة بأن نعيش مشاعرهم وأحاسيسهم، وعندما يتكلم عن السياسة فإنه يكلمنا من أرض الواقع، من معمعة الحروب وجبهات القتال، متنقلا بين الجبهة والساحات الخلفية ودهاليز السياسة والكذب والخداع بكل رشاقة وأناقة وأريحية.
أورويل رجل ظلمته روايتيه الأشهر مزرعة الحيوانات و1984 ، فصار حبيسا لهما، في حين إن إبداعاته الأدبية الأخرى لا تقل جودة وثراء عنها، فرواية الخروج إلى الهواء الطلاق مثلا رواية مغموسة حنينا وذكريات ورغبة في التحرر من ملل العالم الصناعي الذي يسحق الجميع، وروايته متسردا في لندن وباريس غاية في الرقة واللطف بالرغم من محتواها الواقعي القاسي والمقزز أحيانا.
هذه المقالات مختارة بعناية ودقة متناهية وتناقش أمورا نلمسها اليوم كما كانت ملمومسة قبل نصف قرن، وهذا إن دل دل على عبقرية أورويل الذي يجعل مقالا صحفيا يحيي لقرن كامل بالرغم من السمعة المعروفة عن الصحافة بأنها للاستهلاك اليومي.
وسأترككم هنا مع اقتباس مخيف يوضح كيف كانت رؤية أورويل للمستقبل واضحة وضوح الشمس وكيف رأى وتنبأ بالذكاء الإصطناعي باعتباره التطور الطبيعي المرعب والمخيف والذي سيدور بالبشر في دوامة العادي والمكرور والمختلق دورانا أبديا يقضي على الإبداع والوعي البشري:
❞ ليس مستبعداً أن تتفتّق عبقريّة الإنسان عن طريقةٍ تمكّنه من تأليف الكتب باستخدام الآلات مستقبلاً. بوسعنا العثور اليوم على مكننةٍ من هذا النوع في عمليّات إنتاج الأفلام والإذاعة، وفي حملات الترويج والدعاية، وفي قطاعات الصحافة الدُنيا أيضاً. فعلى سبيل المثال، تُنتج أفلام ديزني فعليّاً وفقاً لطريقة عمل المصانع، حيث يُقسم العمل إلى جزأين، يُنفّذ أحدهما بشكل ميكانيكيّ بينما يُنفّذ الآخر عن طريق فرقٍ من الفنّانين الذين يتعيّن عليهم التخلّي عن أسلوبهم الفردي أمّا برامج الإذاعة فيكتبها بشكل جماعي متمرّسون مأجورون تُملى عليهم المواضيع وسُبل معالجتها مسبقاً، وعلى الرغم من ذلك، ليست كتاباتهم في المحصّلة أكثر من موادّ أوليّة معرّضة للبتر والتعديل من قبل المنتجين والرقباء بغرض الوصول إلى النتيجة المطلوبة ينطبق الأمر ذاته على كتب وكراريس الهيئات الحكوميّة التي لا تعدّ له ولا تحصر تتجلّى كذلك طريقة عمل الآلة في إنتاج القصص القصيرة والدوريات والقصائد في المجلّات الرخيصة تعجّ صحف من نوع ذا رايتر the Writer بإعلانات مدارس تعليم الأدب، وتعرض جميعها حبكاتٍ جاهزة مقابل بضع شلنات وتقدّم بعضها، مع كل حبكةٍ، العبارات الافتتاحيّة والختاميّة لكل فصل. وتزوّدك بعض الصحف بإرشادات أشبه بمعادلات الجبر لمساعدتك على تصميم الحبكة بنفسك. بينما تعطيك صحف أُخرى عُلب بطاقات موسومة بشخصيّاتٍ ومواقف ما عليك إلّا خلطها وتوزيعها للحصول على قصص مبتكرة أوتوماتيكيّاً. قد يتبع المجتمع الشمولي أساليب مشابهة في إنتاج الأدب مستقبلاً، إن استمرّت الحاجة إليه بالطبع. سيُقصى الخيال، والوعي لو كان ذلك ممكناً، من عمليّة الكتابة مع مرور الوقت. سيحدّد البيروقراطيّون الخطوط العريضة للكتب قبل أن يدفعوا بها لتتناقلها أيدٍ كثيرة تمحو كل أثر للفرديّة فيها، تماماً كسيارة فورد خارجة لتوّها من نهاية خط التجميع. ❝