رقم مئة وخمس /2024
شجرة البؤس - الجزء السادس من الاعمال الروائية الكاملة
طه حسين
""قال علي متهللًا: فابسط يدك لنقرأ الفاتحة. قال عبد الرحمن: مهلًا أبا خالد؛ فإن بيننا وبين ذلك أمورًا ثلاثة. قال عليٌّ: وما هي؟ قال عبد الرحمن: أمَّا أولها: فأن تعلم أن ابنتي قبيحة الشكل بشعة الصورة، لا تكاد تقع عليها العين إلا انصرفت عنها مشمئزة، وانحرفت عنها نافرة. وأما الثاني: فهو أن لابنك أمًّا كما أن له أبًا، ويجب أن تعلم من هذا الأمر كله مثل ما نعلم، ويجب أن تنقل إليها في أمان""
""ان للبؤس شجرة، تضرب بجذورها في أرواحنا، تتغذى على أيامنا وتمتص حيويتنا وآمالنا، ثم تطرح ثمارها من حسك وشوك نلوكها مرغمين، فلا مفر من قدرنا المرسوم.""
— من رواية «شجرة البؤس».
ولم تكن رواية شجرة البؤس وهي رواية من تأليف طه حسين صدرت للمرة الأولى في الأول من يونيو عام 1943 عن دار المعارف للطباعة والنشر والتوزيع بالقاهرة بعدد صفحات صغير جدا لم تكن بهذه الفلسفة الجمالية، فقد نسج «طه حسين» عالمًا ذاتيًا ينتمي إلى أحد الأقاليم الريفية في مصر، في فترة أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ورغم أن القارئ ربّما ينتمي مكانًا وزمانًا إلى عالمٍ مُغاير عن العالم الذي تقع فيه الأحداث، فإن شخوص الرواية ومصائرهم نافذة وعابرة حدود الأمكنة والأزمان؛ حيث يتحدث طه حسين هُنا وبشكل خاص عن الإنسان في حد ذاته وصراعاته مع نفسه ومع غيره، عن تطلعه إلى السعادة وخوفه من المستقبل الغامض، عن شعوره بقلة النصيب وبؤسه المزمن، وعن فرحته بأبسط الأمور وتوقه إلى الراحة النفسية والحياتية ، كل ذلك في قالبٍ شديد الخصوصية ينتمي إلى مجتمع له مفرداته وعاداته وتقاليده لكن مشاعر وصراعات أشخاصه لا تنتمي سوى إلى الإنسان بالصورة الجمعية.
تبدأ الرواية بحديث الصديقين علي وعبد الرحمن عن زواج خالد ابن علي بنفيسة ابنة عبد الرحمن. منذ البداية نلحظ الصداقة الوطيدة بين الرجلين حيث كان علي تاجرًا كبيرًا في الإقليم، وكذلك عبد الرحمن له تجارته الواسعة في القاهرة، وهناك تجارة مشتركة بين الاثنين، فكان عبد الرحمن يأتي مرارًا إلى الإقليم لتسويق بضاعته، وهناك ينزل ضيفًا في بيت علي يتحدثان في كثيرٍ من الأمور ويتشاركان النصائح والمشاكل اليومية. لذا كان من الطبيعي أن يرغب الاثنان في أن يتصاهرا، بخاصة وأن ذلك يضمن ألا تذهب ثروة الرجلين للغريب.
ولم يكن ذلك هو المَعْلم الوحيد في الرواية لفرض الآباء إرادتهم على أبنائهم ورغبتهم في تحديد مصيرهم، بمعزلٍ عما يشعر به الابن وأن رغبته ربّما تخالف إرادة ورغبة والده. نرى نزعة الآباء ليُنشّئوا أبناءهم كما نشّأهم آباؤهم غير عابئين بأن الزمن يتغير وأن لكل زمن مفرداته وأحكامه؛ فنجد علي قد حرّم على ابنه خالد أن يتعلّم في المدارس النظامية بل أرسله إلى الكُتّاب كما أرسله أبوه قبل ذلك. والآن نجده يرغب في تزويجه من أجل أن يضمن الحفاظ على ثروته.
وأمّا خالد فكأنه قد اعتاد أن يتم انقياده وأصبح منزوع الرأي والرغبة، وإنما يقول سمعًا وطاعًا لشيخ القرية في كل ما يأمره به. فكان من الطبيعي أن يوافق خالد على ذلك الزواج بعدما باركه الشيخ ويمضي فيه رغم أن نفيسة عروسه لم تكن تتمتع بالجمال الذي عادةً ما يستهوي الشباب في سنّه. لكنه أقر الزواج وعاشر نفيسة بالمعروف وأنجب منها فتاتين هما سميحة وجلنار؛ فأمّا سميحة فكانت طفلة شديدة الجمال، وأمّا جلنار فكانت تفتقر إلى جمال الأطفال شأنها شأن أمِها نفيسة.
هل يمكن أن يكون الوعي والإدراك رواقًا إلى الشقاء والتعاسة بينما غياب الوعي- بأمرٍ ما- من شأنه أن يجعل صاحبه سعيدًا هانئًا؟ يختبر خالد ذلك التساؤل حينما تُولد ابنته سميحة بجمالها الأخّاذ، فنجد خالد الذي كان يحسن معاملة نفيسة ولا يلتفت مُطلقًا إلى ملامحها تتغيّر طباعه تجاه زوجته ويُؤلمها بكلماته التي تنال من شكلها الذي لا يد لها فيه. وكأن جمال تلك الطفلة جعل خالد يبصر شيئًا كان سعيدًا ومرتاحًا لولا إبصاره له.
تسوء حالة نفيسة بسبب مضايقات خالد المتكررة حتى يُصيبها مسٌ من الجنون، فيطلب عبد الرحمن من زوج ابنته أن تستقر نفيسة وبناتُها في بيت أبيها بالقاهرة علّها تستعيد عافيتها وسلامها النفسي. يوافق خالد ويظل وحيدًا في الإقليم يُعاتِب نفسه وتغمره مرارة الذنب لما ألمّه بامرأته التي لم تُسء يومًا معاملته. ويظل خالد يتألم كلما رأى ما آلت إليه زوجته من الغم والتداعي إلى أن تُنسيه شواغل الحياة أو تُناسيه، وتمر السنوات حتى يتزوج بامرأةٍ أخرى تُدعى منى، هي ابنة مسعود أحد تجّار الإقليم.
شخصيات الرواية تنقلت وتشعبت ما بين الجد والحفيد والأب والام والحياة حيث تشعبت وتطورت تلك الشجرة حيث نرى عدةَ أجيالٍ متعاقبة؛ بدءًا من علي وعبد الرحمن اللذين تحدثنا عنهما مُسبقًا، وخالد وسليم ابن عمه الذي كفله علي بعد موت والديه وأصبح يُربّيه رفقة ابنه خالد، بل كان يطلب من خالد أن يناديه بأخيه. ونرى جيل الأبناء المتمثل في سميحة وجلنار أبناء خالد من زوجته نفيسة، وكذلك باقي أبنائه من زوجته منى. ونرى سالم ابن سليم من زوجته زبيدة.
لكل شخصية من هؤلاء شواغلها وفلسفتها الخاصة عن الحياة. فمثلًا يرى سليم أن المدارس لم تُوجد لأبناء الفلاحين وهو ما يوافقه فيه الجيل الأكبر كأمثال علي وعبد الرحمن. بينما يرى خالد الذي حرمه أبوه من ارتياد المدارس أنه لا فرق بين بني البشر، ومن ثمّ ألحق أبناءه من زوجته منى بالمدارس التي يرتادها أبناء الموظفين، وكأنه يُريد أن يرى في أولاده ما حُرِم هو منه، لدرجة أنه كان يبيع بعض أثاث البيت وأمتعته ليوفّر نفقات دراستهم.
يمثل ذلك الموقف تحررَ خالد من ذلك الزمام الانقيادي الذي فرضه عليه أبوه من قبل. نجده مع توالي الأحداث يكتسب رؤيته الخاصة عن الحياة غير تلك الرؤية التي تربّى عليها. ونراه يعي حقيقة أن أبناءه خُلقوا لزمانٍ غير زمانه وعليه أن يواكب ذلك التغير بإرسالهم للتعليم في المدارس التي حُرّمت عليه، لكن البؤس يلاحق فتيات العائلة وخاصة بنفيسة وبنتيها سميحة وجلنار هو الأكثر بؤسًا وألمًا؛ فبعد وفاة عبد الرحمن وانتقالهن للعيش في بيت خالد لم تَسِر الأمور على ما يُرام، فنفيسة اشتد عليها التعب النفسي والعقلي وأصبحت لا تقدر حتى أن تتعرف على ابنتيها، وأمّا سميحة فقد تزوّجت برجلٍ مسن له عدة أولاد من زوجته المتوفاة ولم يشفع لسميحة جمالها لتحظى بحياةٍ هانئة، فقد كانت تفقد جنينها كلما حملت فآلمها الفقد وانكبّت في ألمٍ نفسي. وأمّا جلنار فقد حُرمت من ثروة أبيها الذي أنفق أغلبها على أخوتها الذكور، فضلًا عن أنها أصبحت أقرب ما يكون بالخادمة، فكانت مُنى زوجة خالد تعتمد عليها كُليًا في القيام بأعمال البيت.
يزداد الإقليم وحشةً مع تقدم الأحداث والسنين والأجيال. يموت أبطالنا واحدًا تلو الآخر، ويظل ذلك العالم الرحب المليء بالحكايات والأزواج والزوجات والبنين يضيق ويضمحل. يموت الجيل الأكبر ويقرر الجيل الجديد الرحيل إلى القاهرة حيث يبصرون حياة جديدة، ويظل جيل خالد وسليم يتحدث عن الحياة وما تغرينا به. ونتساءل هل كان خالد مُحقًا حين أرسل أبناءه إلى المدرسة؟ هل لو كان فعل معهم مثلما فعل معه أبيه وأذهبهم إلى الكُتّاب سيكونون بجواره الآن يحملون عنه تجارته ويملؤون عليه الدار؟
في نهاية الامر يحضرا الموت بعد ان تفقد الحياة ولرغبة في المال أو الرزق وتعدو جُلّ أمانينا هي وجود ونسٍ وأنيسٍ يشاطرنا أيامنا الأخيرة. فيُسدل الستار بموت خالد، لتموت بعده جلنار ويتفرق الأبناء ويذهبون
يتحدث الكتاب عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية التي كان يعاني منها العديد من القضايا التي تهم الشارع المصري ما من بدايات القرن العشرين، فتحدث عن شخصيات كانت تعيش في الريف تعرضت لأقسى أنواع الظلم والبؤس والألم، حتى أنّ هذا الأمر لم يتوقف عند هؤلاء الأشخاص فقط، حيث امتد إلى أبنائهم فورثوا عنهم تلك الشقاوة والأحزان والعذاب، فكانت شخصيات صنعها طه حسين بأسلوب ممتع تمكن من خلالها إثبات ونفي بعض المشاكل التي تعرض لها في كتابه،
ومن أهم الأمور التي تحدث عنها عميد الأدب العربي في هذا الكتاب وتجعل من القارئ مندمجا بشكل غير مبرر هو شخصية البطلة، هذه الفتاة الحزينة البائسة الفقيرة ذات الجمال الرائع والأخلاق الحميدة والتي تمتلك علاقات قوية وأذرع تمكنها من الوصول إلى أماكن ليس بمقدور غيرها الوصول إليها، ومع هذا كله إلا أن هنالك شيء طالما كان ينقصها، هذا الشيء هو نصيبها وقدرها الذي دائما ما كان يخذلها، حيث أنّ هذا الأمر لم يتوقف عليها فقط، بل أورثته إلى بناتها اللواتي ورثن عنها كل شيء حزين ومؤلم، ففي طيات هذا الكتاب صورة مؤلمة وحزينة عايشها وتعايش معها العديد من الأشخاص، فوصف فيه تقاليدهم وعاداتهم وعلاقاتهم الاجتماعية والشخصية بأسلوب أدبي يشعر القارئ وكأنه رأى وشاهد وسمع بتلك الأحداث.