ضخمة، بحجم مدينة ساحلية جميلة تتهادى بها النسائم، طولها لا يدركه أفق البصر، و عرضها يقارب مقدار المسافة بين السماوات و الأرض، رأيتها، بكل ما وُهبت من قوة رفعت عنها غلافها، فظل منتصبًا شامخًا بصره إلى السماء، و تسلقتها، كأنما أتسلق جبلًا مقدسًا شاهق الارتفاع، هرعت إلى أولى الكلمات حتى أشرع في القراءة، حتى أتلذذ بعسل الجمال، فإذا صفائح الإبداع تحتك بصفائح العبقرية الأدبية، محدثة زلزالًا عظيمًا من تحتي، فسقطت، و هوى الغلاف فوقي، و علقت غارقًا داخل هذه الرائعة، لا استطيع الخروج...
بعض التجارب الحياتية، العابرة، العالقة في الوجدان، الخالقة بالدواخل أفكارًا و إيمانات جديدة، تحت ضغط ظروفها، تفجر في نفس المبدعين عيونًا عديدة، كما الحال في هذه العين ذات الماء السلسبيل، في هذه الرائعة الأدبية، لأستاذي المبدع أشرف الخمايسي، بديعة أدبية كتبها في اثنتي عشرة يومًا فقط، تفجرت في نفسه فكرتها إثر الهزات التي أصابت القاهرة و التي عايش لحظاتها الصعبة منذ فترة، استطاعت سلب آفاقي من عالمي إلى عوالمها حتى انتهيت منها، و قد تركت روحها بداخلي، من الساعة الثانية و عشر دقائق إلى الساعة السادسة و الثلث - أي بعض آذان المغرب ببضعة دقائق -، في أول أيام شهر رمضان الكريم، أي أنستني دنياي و ما حولي، و سافرت بي داخلها، إلى الانتهاء منها، لمدة ٤ ساعات و عشر دقائق..آه من جمال هذه الساعات الأربع...
أستاذي أشرف الخمايسي، الصانع بالسرد العجائب، لكل عمل له رونق سردي خاص خلاب ساحر، في هذه الرواية امتزج سرد اللغة العربية الفصحى ببعض الكلمات العامية، لتهب النص انسيبابية و رونقًا خاصًا يليق بمجرى الرواية...
على الرغم من كون السرد في هذه الرائعة على لسان راوٍ عليم، إلا أن أستاذي أشرف الخمايسي برع بشدة في اختيار الصياغات و الأسلوب الموائم لكل شخصية عند الاتجاه لها في السرد، فنجد الأسلوب و الصياغات مختلفةً عند السرد عن إيمان غانم، عن عند السرد عن فيفي - فريدة -...
تجلى في أحداث الرواية فلسفة خاصة، و هي فلسفة عن النفس الإنسانية، فلسفة تغوص بها، فلسفة عن هذا الصوت العميق في الطبقة البعيدة من النفس الإنسانية، ذلك الصوت الذي يناقض الإنسان و رؤاه و ظنونه و أحاسيسه، يجعل الإنسان في اضطراب..مع نفسه...
الزلزال في هذه الرواية كان يسير في مسارين متوازيين، مسار الأحداث الروائية، و مسار الرمزيات البديعة، فنجد أن أستاذي العظيم أشرف الخمايسي قد ساق بالزلزال رمزية إلى السلطة، هذا الزلزال الذي شرخ الهرم الأكبر، و فصل ذراع أبو الهول الأيمن عن جسده، هنا رمزية إلى السلطة التي تدمر تاريخ مصر العريق الجليل، و أيضًا تدمير الزلزال لجميع مآذن المساجد المصرية البهية، عدا مئذنة مسجد ابن طولون و مآذن مسجد الحاكم بأمر الله، هنا رمزية غاية في العبقرية، فالزلزال دمر كل المآذن إلا مآذن مسجد أحد أشد خلفاء التاريخ الإسلامي قمعية، فيرمز بهذا إلى القمع السلطوي في مصر، و هيمنته على مصر، و كذلك تدمير الزلزال للقناطر الخيرية، فكأنه رمزية إلى ذلك الخير المنهوب من الشعب من قبل السلطة...
هناك أيضًا رمزية في هذه الرواية إلى ثورة ٢٠١١، ثورة ميدان التحرير، صاغ أستاذي أشرف الخمايسي الرمزية بالمسلة الفرعونية الموضوعة في ميدان التحرير التي انقلبت خرافها الأربعة نحو الجنوب، ليشير إلى كون هذه الثورة التي نزل بها الشعب كانت تتمنى التغيير و العلى و الرفعة - كأن هذه الأهداف هي اتجاه الشمال -، فأحدثت عكس ذلك تمامًا، و انقلبت إلى الجنوب، إثر الزلزال...
نهاية الرواية كانت مذهلة، و كأنها نفسها رمزية أخرى إلى هذا الشعب المصري، الذي بالرغم من الظروف و ضغطها عليه، لكنه لا يزال يحب، و يعشق، و يحضن، و يُقبل، حتى يصل إلى تحت، و يمارس الحب، حتى و آخر المآذن المتبقية، و التي هي مآذن مسجد الحاكم بأمر الله، و التي ترمز إلى القمع، تكبر بطريقتها الحزينة التي تناقض جمال الآذان و الراحة التي يبعثها في النفوس...