لم يخذلني حمدي الجزار هذه المرة..
تعرفت عليه أول مرة في رواية "سحر أسود" الصادرة عام 2005 ثم تلتها "لذات سرية" عام 2008، و رغم أني لم أحب الروايتين إلا أنني خرجت منهما بنتيجة مفادها أن هذا الكاتب موهوب بحق، و أن ما ينقصه هو أن يوظف موهبته هذه بشكل صحيح.
لمحت هذه الرواية لأول مرة منذ شهرين تقريبا في مكتبة الشروق، سحبت الكتاب وقلبته في يدي لأقرأ النبذة الموجودة على الغلاف الخلفي، إلا أنها لم ترو فضولي، فهي مجرد مقطع من الرواية لا يشي بأي شيء عن مضمونها، وظللت مترددا بين شرائها لإكتشاف جديده خاصة أن سعرها منخفض نسبيا (30 جنيه)، و بين خوفي من خيبة أمل جديدة تضاف لسابقتيها، و في النهاية آثرت السلامة وأعدتها إلى الرف قائلا لنفسي فلأنتظر حتى أرى ردود الأفعال حولها ثم أقرر.
نسيت الموضوع حتى ذكرني به الناقد المتمكن صلاح فضل في مقال نقدي جميل و مشوق عن الرواية، جعلني أحسم أمري وأقرر شراءها في أقرب فرصة -خاصة وأن تجاربي السابقة مع ترشيحات الأستاذ صلاح لم تكن تخيب غالبا- وقد كان.
شدتني الرواية من أول صفحاتها، الأسلوب جميل و يظهر فيه نضج الكاتب بوضوح، تسرد الرواية قصة بطلها سيد إبن الأسطى فرج النجار منذ طفولته المبكرة في حواري طولون في أوائل السبعينات و تتتبع مراحل حياته و تطور شخصيته من خلال إستعراض نماذج أهم النساء اللاتي تركن بصمة لا تنسى في وجدانه، من أمه لجاراته لبناتهن لزميلاته و أساتذته في المدرسة ثم الجامعة -وهو ما ذكرني برواية طلال فيصل الجميلة "سيرة مولع بالهوانم"-، كل فصل من الرواية معنون بإسم واحدة من تلك النساء، ومع إستعراضه لهن يستعرض الكاتب كذلك تفاصيل الحياة في الحارة المصرية في تلك الفترة، و علاقة سيد بأبيه الأسطى فرج وعمله مساعدا له كصبي إسطرجي بجانب دراسته بما في ذلك من تجارب ثرية، حتى يصير مسئولا عن الأسرة بعد وفاة الأب، كما يستعرض حال الجامعات المصرية في فترة أواخر الثمانينات و أوائل التسعينات من خلال نموذج قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة القاهرة التي يدخلها سيد بعدما فشل تحقيق حلمه و حلم والده بدخول كلية الهندسة، وتنتهي الرواية مع نهاية الألفية الثانية و بطلها قد بلغ الثلاثين من عمره وصار الأستاذ سيد مدرس الفلسفة، و تزوج -وهو المولع بالنساء و الحب منذ صغره- زواجا تقليديا جافا بجارته سلوى المدرسة أيضا، وهي نهاية وإن كانت محبطة إلا أنها كذلك واقعية لحد كبير.
أهم ما يميز الرواية في رأيى هو الصدق و الشغف الناضحان من بين سطورها، وهو ما جعلني أظن -وليس كل الظن إثم- أن هذه الرواية ليست خيالا محضا من الكاتب، وأن بها بعض ملامح قريبة من سيرته الذاتية الحقيقية، خاصة مع وجود الكثير من عوامل التشابه بينه و بين بطلها في السن و الدراسة، إلا أن السبب الأهم الذي دفعني لهذا الإعتقاد هو الإحساس العالي المكتوبة به الرواية، كمثال مشهد كيّ الأسطى فرج ليد إبنه سيد بالسيخ المحمي عقابا له على "التزويغ" من المدرسة، هذا المشهد العبقري بواقعيته المؤلمة و تفاصيله الحية لا يمكنني إبتلاع كونه خيالا، وأعتقد أن نفس هذا الإحساس قد وصل للأستاذ صلاح فضل فكتب في مقاله: (وأوشك على الظن بأن يد الكاتب وأقصد الراوى مازالت تحمل أثر هذا الكىّ حتى الآن) !
من أكثر الفصول التي أحببتها في الرواية فصلي "ريم" و "رانيا" على التوالي، الذان صورا إنتقال مشاعر البطل من مرحلة الحب الأفلاطوني البريء لمرحلة الحب الشهواني المتأجح ببراعة تحسب للكاتب.
مآخذي على الرواية ليست كثيرة، أهمها وصف البطل الحسي لأمه -أو زوجة أبيه لست متأكدا- في أحد مشاهد الرواية التي كتب عنها الأستاذ صلاح فضل في مقاله: ( فلا يمكن للصبى أن يتحدث عن أمه بهذه الطريقة، ولو كنت من أبيه وقرأت هذا الوصف لأعدت كىّ أصابعه بحرص هذه المرة كى يتأدب)، بالإضافة إلى الوصف المحبب لبيت الدعارة في فصل "أُنس" الذي لم أستسغه صراحة.
ختاما أعتقد أن هذه الرواية تعتبر نقطة تحول في مسيرة حمدي الجزار الأدبية، أتمني من كل قلبي ألا يقل القادم من أعماله عنها.
- ملحوظة: رابط المقال القيّم الأستاذ صلاح فضل عن الرواية ****