"ملك الخنازير.. صراع الدين والجنس والفلسفة في مواجهة جحيم السُلطة"
لا يوجد كائن لا يسلم من التناقضات، والبشر كائنات متشعبة الجذور والأفكار. كل إنسان خُلق من جسد له غريزة، وروح تود الارتقاء، ونفس تكرّ وتفرّ، ولن يقوى أي إنسان مهما بلغت حكمته أن يمتلك قوة التحكم في هذه القيود، ولكن قد يحدث ويمتلك السُلطة فيتغافل عن كل ما يعكّر صفو حياته.
يقول أوسكار وايلد: "كل شيء في هذا العالم يدور حول الجنس، ما عدا الجنس؛ فالجنس يدور حول السُلطة" ، ربما تجلّت خفايا هذه المقولة في صفحات هذا النص الروائي.
الفلاسفة عباقرة بالنسبة للبعض، ومختلّون عقليًا بالنسبة لبعض آخر، لكن ما يميز الفيلسوف أنه يفكّر في المعروض والموروث، يترجم ويحلل، كما فعل "نيتشه" المجاهد في طريق ما بعد الحداثة، والمتمرد على أفكار سابقيه من رجال الدين والفلسفة، وكذلك هو من أثر على شخصية هامة محورية من شخصيات الرواية.
يفتتح النص بخطاب نتعرف منه على شخصية "بيتي"، تركت والدتها في الولايات المتحدة، وانتقلت إلى مصر. عاشت "بيتي" بأفكار "نيشته" المتمردة، وبعقيدة تختلف عن عقيدة من حولها في مسكنها الجديد، واحتكت بكثير من الصعاب والبشر إلى أن قابلت "عزيزة".
ثم يأخذنا النص برحلة مع الشخصيتين بسرد قوي ممتع، وإيقاع أحداث سريع. نرى كيف واجهت كل منهما في سبيل الحرية، والحفاظ من طمع الغير، كيف دخلتا عالم الدعارة والقوادة وكيف كانت النتيجة، نتنقل بلقاءات وصراعات ضد شخصيات أخرى تنتمي لأفكار مغايرة، وعقائد ومذاهب مختلفة ما بين يهودي وكاثوليكي وسبتي.
الشخصيات بديعة في الرواية، حية ومستقلة، تتشابك خطوطهم في حبكة عبقرية، وتتوالى مفاجآت لا تتوقف حتى آخر صفحة، لكن أحيانًا يميل الكاتب إلى إنهاء خط الشخصية بموتها، وهذا ما حدث مع أكثر من شخصية، فبعضها جاء موته مهم ومكمل للحبكة، والبعض الآخر شعرت أن موته جاء فقط لإنهاء خطه والأحداث المتعلقة به.
تدور الرواية في فترة زمنية كبيرة، منذ وجود اليهود في مصر وقت الأربعينيات وصولًا إلى الثمامنينيات، ورغم هذه الشريحة الكبيرة إلا أن الخط الزمني حافظ على إحكامه وتنقله بيسر واحترافية، وصار التاريخ من هجرة اليهود والحرب واعتقال الثوار سبب واقعي مرتبط بكل ما يحدث وهو ما أضاف ثراءً وواقعية للنص، ولم يحدث أي فقدان لخطوط الأحداث والشخصيات، خاصةً مع ظهور أجيال جديدة وأبناء لشخصيات بدأت بها الرواية وأثرت في باقي الأحداث.
هل الجنس هو أقصى عقاب على الأرض؟ هل الجنس هو نعمة والسبيل الأوحد لخلود الحب؟ نرى تلك التساؤلات في علاقات معقّدة مع "عياد" و "يسرا" و "سيلفيا"، جميعهم وقعوا في ضغط اختلاف العقيدة، والأصل، فكيف تتغلب الأصول الدينة على العاطفة والغريزة؟ وهل الدين هو القادر على صون هذه العلاقات أم قد يصبح عقبة تطيل الشرور والآثام؟
حقيقةً النص يثير كثير من القضايا، ويتعمق في مثلث الدين والجنس والفلسفة بأسلوب رائع ومبتكر، تراءت هذه المشكلات من خلال الحدث والشخصيات، لذا لم يعجبني التعبير المباشر المتكرر في أكثر من موضع حول هذه القضايا، خصوصًا خطاب "يسرا" الأكاديمي؛ فالنص ثري وممتلئ بتفاصيله المبهرة العميقة ولم يكن يحتاج أي إشارات مباشرة للقضايا الموجودة.
نص مثل هذا يستطيع بجدارة أن يدقّ كل الأبواب المغلقة، ويكشف عن كل مستور، رواية عبقرية في سردها وتناولها، ولغتها السلسة، وتنقلاتها البارعة. هذا نص يمثّل الفن، يمثّل رغبة جامحة في الحرية التي يسعى كل فنان إلى تحقيقها، صفحات كُتبت بحروف حية، خلقت عالمًا متكاملًا يأسر الوجدان والعقل، ونجحت في الوصول إلى قمة التأثير مع المتعة الأدبية الفريدة، كي يصبح نصًا تكتمل فيه عناصر الأدب الراقي والفن الجميل.