#قراءة_2024 (12)
دروب ومسالك، رانيا عدلي نور الدين، كتوبيا 2021، 260 ص
...............
من أكثر الأعمال التي تجذبني وأستمتع بقراءتها= الأعمال التي تحمل رسالة هادفة، رسالة إصلاحية هدفها تنوير القراء وتعليمهم، إضافة خبرات إليهم، لأن المؤلف الجاد هدفه إفادة القارئ بما تعلمه وأفاد منه، وهكذا يكون العلم (تعليم وتعلم).
يدور هذا الكتاب -الماتع حقًا- حول تتبع الدروب والمسالك العلمية والحياتية التي سلكها عدد من الشخصيات في تاريخ الأمة الإسلامية، هذه الشخصيات التي تركت لنا بصمة بارزة وواضحة في ازدهار حضارتنا، ولا زلنا نستفيد من إبداعاتهم وإنتاجهم العلمي حتى هذه اللحظة.
تناولت المؤلفة -حفظها الله- وهي باحثة جادة في التاريخ الأندلسي، وقارئة ومثقفة قبل أن تكون باحثة، وهذا ظاهر بوضوح بين ثنايا الكتاب، تناولت سيرة ثلاث شخصيات أسهموا في الحضارة الإسلامية بما تركوه لنا من مؤلفات ونظريات كان لها دور كبير في تاريخ الحضارة الإسلامية، وهم: الجاحظ وكتابه "البيان والتبيين"، وياقوت الحموي وكتابه "معجم البلدان"، وابن خلدون وكتابه "المقدمة".
تحدثت المؤلفة باستفاضة عن دروب كل شخصية ومسالكها والظروف التي مرت بها، سواء في حياتهم العلمية أم الحياتية، والصعوبات التي واجهتهم في طريق العلم، والهمة العالية لدى هؤلاء في التغلب على هذه الصعوبات والاستمرار في البحث والتأليف، فهذا الكتاب يقوي الهمة عند القراء، ويضيء لهم الطريق في التعرف على شخصيات تشبهنا في الظروف لكن تختلف عنا في الهمة العالية.
ركز الكتاب على أن هؤلاء المؤلفين بشر مثلنا ليسوا معصومين وإن كانوا وقعوا في خطأ ما فهذا لأنهم بشر، ويجب قياس هذا الخطأ بعصرهم، لكن هذا لا يمنع من نبوغهم في العلم والتخصص، وخير دليل على ذلك آثارهم التي نتناقلها حتى هذه اللحظة ونستفاد منها، فلكل شخصية سمة بارزة بها فالجاحظ في البلاغة والحموي في الجغرافيا والمعاجم، وابن خلدون في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، فانفرد كل واحد منهم بسمة ميزته على أقرانه من المعاصرين له، ولم تكن هذه السمة تميزه لو استكان إلى عصره وانغمس في الجدال العقيم مع أقرانه، أو انشغل بالسوشيال ميديا والرد على الانتقادات التي توجه له.
الرسائل الجميلة (الإصلاحية) التي تريد المؤلفة توضيحها في ثنايا الكتاب هي: عالمية الحضارة الإسلامية وتفوقها في جميع المجالات، وريادتها، وتقديم نصائح عدة لجيل الشباب الحاضر والتركيز على أهمية القراءة والتخصص والبحث العلمي، قراءة الكتب المفيدة النافعة -ليس الروايات- وسعيد لاتفاقي معها في هذا الجانب، وعدم الانشغال بما لا ينفع، وعدم الخوض في جدال عقيم لا يفيد بل يضر الإنسان، والاستفادة من تجارب علماء المسلمين والقراءة في كتب التراجم.
كانت المؤلفة تعلق في صفحات الكتاب على بعض الأحداث التي تمر بها الشخصية بما يتناسب مع عصرنا هذا، فتربط الماضي بالحاضر، وتقدم نصائح تربوية مهمة، يدل على ثقافتها وتعمقها في القراءة والبحث، ووضعت مصادر كل شخصية في الهامش ثم تركت العنان لقلمها ينساب بين السطور بما تجود بها قريحتها.
الكتاب مهم جدًا وبسيط وهو نموذج طيب ذكرني بكتاب جورجي زيدان مشاهير القرن 19م، وكتاب محمد كرد علي عن علماء المسلمين، وكتاب صور من حياة الصحابة والتابعين، أي الكتب المكتوبة بأسلوب أدبي بسيط، يحبب الناس في القراءة لكنه يحمل في الوقت نفسه رسالة قوية؛ لاعتماده على مصادر أصلية، فهو كتاب تاريخي مكتوب بأسلوب أدبي يناسب جيل الشباب الحالي الذي ليس لديه صبر على القراءة العميقة.
وأرى عدم خوض المؤلفة في مذاهب الشخصيات أو الحديث عنها = جيد يخدم فكرة الكتاب التربوي، فمثلا قضية اعتزال الجاحظ، وموقف ياقوت الحموي من سيدنا علي بن أبي طالب، وحب ابن خلدون للسلطة وغروره وموقفه من الحكام والمؤامرات في عصره، فالهدف من الكتاب هو معرفة ظروف نشأة كل عالم وما تركه لنا من علم، أما الأمور الأخرى فلن تفيد القراء في شيء. الكتاب جميل أنصح بقراءته، وأشكر المؤلفة عليه.
د. محمد عبد العاطي محمد
3 رمضان 1445هـ/ 13 ماس 2024م
سوهاج المحروسة