"ما الذي نفعله بأنفسنا يا صديقي؟ ليس سوى مجرد كوننا ضعفاء وسريعين إلى الألم."
تأخذنا رواية "دوناتيين" إلى فرنسا في أول القرن العشرين، وبالتحديد في "بريتانيا" وهي منطقة فرنسية قروية تحمل أهمية ثقافية وتاريخية، لنرى تلك العائلة التي تعيش يوماً بيوم تتطلع إلى العيش فقط، الأب "لوارن"، والأم "دوناتيين"، وأبناءهم الثلاث، فتبدأ الحكاية والصراع عندما يأتي للأم طلب استدعاء للعمل كمُرضعة في باريس لأحد أولاد الأثرياء، وهناك ترى المدينة المختلفة تماماً عن حياتها القروية البائسة، للمدينة مُغريات كثيرة، أكثر من قريتها البائسة، حتى الفرص الوظيفية بباريس أفضل، وساعد جمال "دوناتيين" على النظر إليها كضحية، بل وشيطنة الأب بأولاده، وأنها كانت تضيع حياتها في تلك العائلة القروية البائسة. وترى الفروق الطبقية والنظرة المجتمعية المُجحفة بحق سكان القرى ومزارعيها وحارثيها، فتُغرى "دوناتيين" بأضواء المدينة، ولكن إلى أي مدى يُمكن أن تُبهرنا أضواء المدينة؟ وإلى أي مدى سنظل نتجه نحو المجون والجنون، والطبيعة القاسية للمدن، دون النظر إلى المشاعر، دون الاهتمام بها، والعثور على ما يجعلنا بشراً، لا كومة من الجلد القاس، لا روح فينا.
وما بين خروج "دوناتيين" من قريتها وهويتها والإندماج والتأقلم مع هوية أخرى، مُتناسية وجود عائلة مُحبة لها، يحاول الأب "لوارن" النجاة بحياته هو وأولاده الثلاث، أن يُطعمهم وينقذهم من الموت، ما بين أن يتأقلم مع الغدر وقلبه المطعون ويقطر دماءاً، وبين أن عليه أن يتمالك نفسه، وأن يكون موجوداً وحاضراً لأجل أولاده، يعيش صراع مُهلك، حتى أنه فكر العديد من المرات أن يستسلم.
لعب الكاتب "رينيه بازان" لعبة ساحرة في سرد الأحداث، فجعلها من جهة الزوج "لوارن" لفترة طويلة، حتى كنت تظن أنك لن تسمع عن "دوناتيين" مرة أخرى، وستصبح الرواية رحلة تأقلم، ولكنه بعدما عطشك عن معرفة مصير "دوناتيين" وهل تستحق كل التهم المنسوبة إليها، ليروي عطشك وننظر إلى الحكاية كاملة، كقطعة بازل عملاقة، يختار الكاتب أن يريك ما يريد منها على الترتيب الذي يُحب، ولكنك بنهاية الرواية حتماً سترى الصورة كاملة، وأن الحياة عبثية بشكلاً ما، وأن مُجرد اختيار بسيط في الماضي قد يقلب مُتسقبلك كله جحيماً، ويجعلك تعيش في ندم أبدي، لا كفارة منه، ولا غُفران، ورغم ذلك، عليك أن تعيش وتنجو.
ختاماً..
رواية "دوناتيين" للكاتب الفرنسي "رينيه بازان" من كلاسيكيات الأدب الفرنسي، ولكنها مشوقة، وأحداثها سريعة، وشخصياتها مكتوبة بمهارة وحتى قرارتهم بداخل الأحداث شديدة المنطقية، الكاتب سرده سلس، وتلك اللعبة الساحرة التي استخدمها كانت فعالة، فقط كان ينقص الرواية بعض المشاهد الحزينة الفعالة مثل: مشهد انتظار الأولاد، وبرغم قسوته كان جيداً، ولكن غير ذلك فهي رواية جيدة، بترجمة جيدة أيضاً وبكل تأكيد يُنصح بها.