أحب وأنحاز لتلك الكتابة التي تبدأ من الذكريات الخاصة وتنتقل إلى رؤية العالم كله، وتأمل تلك الذكريات الذي يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى رصد فلسفة خاصة بالكاتب، في النفس والمجتمع ومن ثم في الحياة، منذ السطور الأولى لكتابها (ظلٌ يسقط على الجدار) يدرك القارئ تلك الخصوصية التي تحملها منى حبراس في كتابتها (الذاكرة حقل ألغام) لتقسم الكتاب بعد ذلك إلى أربع أرفف/فصول تنقلنا خلالهم بكل بساطة من الطفولة (حيث بدأ كل شيء) مرورًا بذكرياتها مع أشخاص/أرواح صنعت الذاكرة، ثم نصل إلى تأمل خاص في الفصل الثالث (الأشياء في بحثها عن المعنى) التي تنتقل فيه بين المعاني المجردة وأثرها على شخصيتها وتكوينها والأماكن التي شكلت قدرًا من ذلك الوعي والتأمل سواء في البيت الجديد أو المغرب التي تخصها بمقالٍ مفرد، كل ذلك يقودنا إلى الرف/القسم الرابع حيث "الكتابة فنًا للعيش"، وهو في تقديري أجمل وأهم أقسام الكتاب.
لاشك أن القارئ سيغبط منى حبراس، ليس فقط لقدرتها على التقاط لحظات شديدة الجمال والخصوصية سواء في طفولتها أو شبابها، ولكن لهذه الذاكرة المتوقدة التي تستحضر اللحظات فنعيش معها وكأنها لم يمض عليها كل تلك السنوات!
منذ تأملها للطفلة التي تواجهها في المرآة، ذلك الشعور الذي لاشك صاحب كل طفلٍ منّا في لحظات تشكل وعيه الأولى، مرورًا بحديثها عن يوم ميلادها "الأخضر"، وصولاً إلى الحادثة التي شكلت صدمة جيل كبير من مواليد الثمانينيات وهو عزو العراق للكويت، حتى نصل معها إلى مسلسلات الطفولة الجميلة "سالي" و"جودي أبوت"، وتضع ملاحظتها المهمة والذكية في الفرق بين تلقينا كأطفال للمسلسل وبين قراءة الرواية التي يتضح فيها موقف البطلة، وأنها لم تكن تلك المسالمة المتسامحة على الدوام.
كل مقال في الكتاب وكل فصل يحتاج لوقفه خاصة وإشارة وتأمل، ولكن يبقى في هذه العجالة أن أشكر منى على هذه الكتابة التي "قلبت علي المواجع" كما يقولون، والتي أحببتها ودرت حولها طويلاً أيضًا، ولعلي أختم بحديثها الجميل عن الكتابة:
تقول منى:
(أتعجب ممن اخترع مسابقات ملكات الجمال، كيف لم يخترع مسابقة لجمال الأشياء غير المرئية فينا؟! وكيف لم يع أن الجمال ليس أنثى بالضرورة، ولكنه كلمة تستطيع أن تكون أنثى، كما تستطيع أن تكون شيئاً آخر أي شيء!
وُلدتُ وبداخلي رغبةُ كتابةٍ لا تتحقق، وكم اشتهيت أن أفجِّرها في كلمات، فما زال يؤلمني أن أراهم ينزفون كلماتٍ وأبقى أنا أنزف صمتاً، فلطالما استطعت شيئاً لا يتجسد، وأريد أن أنتفض لتتطاير مني الكلمات: كلمات كلمات كلمات… ولكني أتشظى فتاتاً من كل شيء إلا الكلمات.
كلما أسلمت جفني للكرى، رأيت فيما يرى النائم أني أكتب صفحات ملأى بالكلمات، أرى كلمات تتقافز في كل مكان، وتطير هنا وهناك، وينبت لما كان منها يدور في الأرض ريشٌ فجأة، فتحلق حولي، وتحط فوق رأسي، وعلى كتفي، فأشعر في احتفائها بي بسعادة ونشوة بالغة، فنقهقه معاً، نضحك عالياً، نرقص جميعاً في حلقة لا تنتهي، أشبه بحلقات الدراويش في وجدهم وانعتاقهم من ربقة العالم الذي يريدون الانفلات منه، حتى إذا ما أنهكنا الدوران والضحك، تختبئ معي تحت الغطاء وننام ..)
وأنا أقول لها هاهي الكمات أصبحت بين يديكِ، وطوع أمرك، وما عليكِ إلا أن تطلقي عقالها، وتكتبين كل ما تحبين،
في انتظار كتابتك دومًا.
.