#ماراثون_القراءة_مع_بيت_الياسمين
يا بشرى! هذه الرواية من إصدارات معرض الكتاب 2023، وهي أول رواية أقرأها في العام الجديد، وكذلك هى الرواية الأولى لمؤلفها، هكذا فهمت من إهداءه الكتاب لوالده وأمه الراحلة وعمته.
الرواية تحكي عن أحوال المحروسة بعد مئة عام من مقتل طومان باي وبدء الاحتلال العثماني.. أهل المحروسة أو المحروسون وقتئذ هم القبط مسلمون ونصارى، كلهم قبط.. يعيش معهم وينغصون عليهم حياتهم السادة المحتلون الترك العثمانيين وأتابك العسكر العثمانلية... وكذلك معهم الغجر وبقية من مملوكية. هؤلاء جميعًا اجتمعوا تحت سماء المحروسة، ولكن غاب الحب والتسامح والألفة، وشاعت كل مشاعر الكره والضغينة والحقد.
مئة عام مضت لم تشف غليل القبط بعد، ومازالت كراهيتهم للترك ترين على قلوبهم.. والترك بدورهم يحتقرون القبط ولا يكفون عن إهانتهم ويصفونهم ويصنفونهم دومًا كفلاحين همج ورعاع وكارهي الشركس... والغجر لا يحبون أحدًا من أي جنس أو لون.
*****
المؤلف اتخذ أهل بيت قاضى قضاة المحروسة الشيخ أحمد الفضل كنواة أو محور أساسي لروايته، وهم يمثلون القبط. كما اختار منهم لأدوار بطولة العمل سلسلة الأب أحمد الفضل والابن الشيخ يونس والحفيد المتمرد قاسم. فالرواية كما هو مذكور في عنوانها تعد سيرة ذاتية لقاسم بن يونس بن أحمد الفضل.
قاضي القضاة له ثلاثة أولاد؛ الأكبر رافع ثم يونس ثم رفعت. لكن قلبه وهواه مع يونس الابن الأوسط، الذي ورث العلم والفقه والمشيخة عنه، مشيخة الجامع الكبير.
في إحدى المحاكمات التي عرضت للقاضي إشكال وقع بين خصمين، أحدهما رجل من ذوي الغلبة اسمه سليمان التابع، والآخر رجل من نواحي البحيرة يملك عطارة في الحسينية، ويسكن في أرض الظاهر يدعى سالم القشاف. تلقى سالم هذا نظير بيته وحانوته سبعمائة قطعة ذهبية بلا ميثاق وبلا شهود من سليمان التابع. بل وأغراه بقبول زواج ابنه من ابنته الجميلة نعيمة. وبعد أن قبض المال راح ينكر البيعة.. فلما مثل الخصمان أمام القاضي، وأخذت أقوالهما، حكم القاضي بحق سالم في بيته وحانوته، برغم أنه يعلم تحايله وشهادة الزور التي ألقاها.
لم تنتهي الأحداث بعد، فسليمان التابع استنصر بجند من العثمانلية الترك، فأغاروا على بيت سالم في الظاهر، وحطموا أثاثه وألقوا به من الشرفة فوق رؤوس الخلق، واحتلوا دكانه. عندئذ قامت جماعة من الأهالي فأغلقوا المحال، وسدوا الطريق إلى بيت القشاف بالحدايد، وحبسوا العثمانلية داخل السكنى. لجأ القاضي إلي الوالي، وعرض عليه الوقائع، فأرسل قوة من جنده فضت الاشتباك وحررت الترك المحتجزين.
تكشف هذه الواقعة عن حبكة الرواية، والاتجاه الذي تندفع نحوه الأحداث فيما بعد. الحبكة المتمثلة في مشاعر كلا الفريقين -القبط والترك- تجاه الآخر. مشاعر العداوة والبغضاء والضغينة تنطوي عليها قلوب القبط. يقابلها من ناحية الترك مظاهر الازدراء والإهانة والتحقير.
تزوج الشيخ يونس من نعيمة بنت سالم القشاف. ولكن تم ذلك ضد رغبة ابيه القاضي، الذي لم يتخيل يومًا أن يناسب -وهو الذي يمتد بنسبه إلى الإمام جعفر الصادق- هذا الرعديد ابن الأراذل. وهو الذي كان منتهى حلمه وكل أمله، أن يحمل بين يديه حفيدًا له من صلبه، ومن صلب أعز ولده الشيخ يونس الطيب. فلما وضعت نعيمة ابنها قاسم، قام القاضي بطرد ثلاثتهم من بيته.
نشأ قاسم منذ طفولته وترعرع مرافقًا لأبيه في جنبات المشيخة وزوايا الجامع الكبير لا يفارقه، حتى أن الفتية طلاب الشيخ كانوا يتنبأون أن يصير يونس القاضي زعيم المشيخة. وبرغم أنه كان طالبًا نجيبًا ونابغة، غير أن علامات التمرد والثورة والجموح قد ظهرت عليه مبكرًا. شيخه يقول عنه: "هو شيطان مريد منذ صغره، وجان في صورة ابن آدم.. شغله الشاغل الفتنة والتشكيك في دين الله، وجل حديثه الجدل.". وتبدت كراهيته للترك جلية أمام المحيطين في الحي وفي الجامع وفي كل مكان. وحتى عندما زامله الفتي التركي إينال ابن باريش أركان، نائب أتابك العسكر التركي في المحروسة، وحاول إينال كثيرًا أن يتودد إليه ويزيد التعارف بينهما، لكنها كلها باءت بالفشل أمام جهامة قاسم وكراهيته المعلنة على محياه وفي ردوده الفظة على الفتي وأبيه. ولما كان أمر كرهه للترك العثمانلية مكشوفًا تمامًا للأعين، فقد بدأ جمع من الطلاب يلتفون حوله تجمعهم معًا رابطة العداء للترك. ومن علامات تمرده أيضًا كانت علاقة الحب التي ربطته بفتاة من الغجر. سحرته ومعها راح يستكشف خيام الغجر، والعرافات، وصانعي الحجب والتمائم.. المنشدات والأهزجية، راقصي الخيل وراقصات الأفاعي، وصانعي النار، والمحتطبين ممن تعلموا فنون الجنوب، ورفاعية.
تتوالى الأحداث وتتدافع، ويلوح في الأفق أن ثمة انفجار قادم.. وكانت المفاجأة أن يجئ الانفجار عبر ثورة الغجر على الترك. لاحقًا اشترك في الثورة القبط، وكان لقاسم وأبيه ورجال بيت القاضي نصيب الأسد في تلك الملحمة.
*****
أكثر ما أعجبني في هذه الرواية هي أجواء السيرة الشعبية التي أضفاها المؤلف عليها، من أهازيج وربابة وأبيات شعر بلغة العامة ولهجتهم، وكأنها سيرة أبي زيد الهلالي. فيستهل كل فصل، ويفصل بين الفقرات بهذه الأبيات. ومنها الأبيات التالية التي بدأ بها روايته:
"يا أهل الله نبأ المحروسة ودار يونس
والقاضي وحسنا وهاشم وابن القشاف
لموا عيالكم في الحارة على دار يونس
واحكوا الساعة حكاية قاسم واللي انشاف"
*****
كذلك مما أعجبني تلك الحيل السردية التي لجأ إليها المؤلف في خلق الأسرار يكتنفها جو من الغموض، والاحتفاظ بها طي الكتمان، حتي يكشف عنها في الوقت المناسب. مثل سر خاتم الولاية، وسر السراديب التي بنها الفاطميون تحت الجامع الكبير. هكذا أضاف إلى نصه مزيدًا من عناصر الإثارة والتشويق.
*****
وقبل الختام أرى لزامًا على ألّا أتغاضي عن إشكال وحيد صادفته مع الرواية، وهو يتعلق بغلافها. الغلاف ممتاز من ناحية التصميم والرسومات والألوان كسائر أغلفة الكتب الصادرة عن بيت الياسمين، لكنني لم أجده يمثل أو يعبر عن أي من الأحداث أو الشخصيات وما إلى ذلك. واستمرت دهشتي وحيرتي مع الكتاب حتى صفحة 171، وجاء فيها ذكر سقوط المدن والقرى العربية أمام المد التتري واحدة تلو الأخرى مثل قطع الشطرنج، لكنه لم ينكسر سوى فوق صخرة أهل المحروسة. هذه فكرة أو خاطرة خطرت للفتى قاسم في وقت ما. وما زلت لا أري داعيًا لاختيارها كغلاف للكتاب، وأظن أن هناك الكثير من الأحداث والشخصيات والأفكار ما هو أحق بالتصوير على الغلاف.
*****
رواية "بيت القاضي: لمؤلفها محمود عادل طه، هي قطعة من حياة المحروسة، بتفاصيلها ومشاعر أهلها وشخصياتها وأماكنها. وهي كذلك تنبئ عن مدى طموح مؤلفها. فننتظر منه المزيد من الأعمال الأدبية المختلفة، وله منا كل التحية وجزيل الشكر.