*قد تحتوي المراجعة على حرق لبعض أول فصول الرواية، وإن كنت أشك أن هذه الرواية من النوع التي تُحرق، ولكن وجب التنويه*
التجربة الرابعة لي مع "مصطفى منير"، وبكل تأكيد هي تجربة مختلفة عن التجارب السابقة، رغم الجنون المُطبق على الأحداث والأفكار، ولكن الفكرة الكامنة وراء الأحداث هنا مليئة بالرمزيات، والتفاصيل التي ستجعلك مذهولاً ومستمتعاً بكل تفاصيلها.
تتناول هذه الرواية سيرة "نجيب سليم أبورية الديكة"، اسم غريب، لشخصية أغرب، ولد بعيب خُلقي في عينه، فأصبحت نازلة قليلاً عن مكانها الطبيعي، وعيب خُلقي في سمعه، فيسمع الأغاني كأنها كلمات إخبارية أو حديث عادي، بلا نغمات أو توزيع، حُرم من نعمة الموسيقى، ونعمه الوجه الحسن، فما الذي يتبقى له؟ في ظل نشأة مُظلمة من أباً يكرهه، لا يحاول من أجله، ويشحذ على عاهته، ويعتبره من تجارب الرب، وأم تُحاول أن تشكل عجينته بطريقتها، أن تطمس شخصيته قبل الظهور، وتجعله تابعاً لها في كل شيء. فكيف يعيش شخصاً بهذه الخلفية؟ في مجتمع ظالم ومُجحف، لا يعترف إلا بالكمال، رغم معرفته أن الكمال لله وحده.
بدأت هذه الرواية بفصل كابوسي، انفجر بالدماء، والضرب، والقتال، ثم الاتهامات بالخيانة الوطنية، والتحالف مع الدولة الصهيونية! ثم تركنا هذا الكابوس، وتمعنا في حياة "نجيب الديكة" وتقلباتها، عمله نهاراً وليلاً من أجل أن يستطيع أن يوفر احتياجاته، زواجه من "ياسمين" الحلوة شكلاً ورائحة، وموضوعاً، تلك الأنثى الثورية التي تساعد النساء، تُحاول النجاة من قهر فرضه المجتمع عليهن، وتحاول أن تساعد في النجاة، فلم تكن تعلم أن هذا الاختيار قد يجلب لها قدراً تعيساً؛ أتعس مما تتخيل، وأقسى مما تتصور. تُنجب "ياسمين"؛ طفلاً اسمه "أيهم" لديه يداً ناقصة، يبدو أن جينات أبيه المشوهة قوية، وهي في الحقيقة أقوى ما فيه، أو حتى الشيء القوي الوحيد الذي يمتلكه، فتعيش هذه العائلة بشكلاً ما، عيشة راضية، مُتقلبة، ويسلط الكاتب على عملية الأبوة والأمومة ضوءاً لامعاً، أوقات مليئة بالخوف والحزن والبكاء، يخاف على ولده لو بكى، لو سقط، لو نسى أن يتنفس نفساً واحداً، ذلك الخوف الممزوج بالحب، لا يستطيع تخيل أن يفقد ابنه بأي شكل، وياسمين لا تستطيع فقده أيضاً فقد ذاقت هذه الكأس المُرة من قبل!
تكون الرواية أكثر واقعية، وأحداثها أقل جناناً في تلك الفترة الأولى، حتى حدث بعينه، وتبدأ حكاية مجنونة مليئة بالانتقام، والعبث، ويظهر تجلي "مصطفى منير" باستخدامه أكثر ما يميز كتاباته، وهو الجنون، فخلق ديستوبيا أدبية، تتمحور حول "نجيب محفوظ"، لها تأويلات عديدة، ورمزيات أكثر، ينتقد الوسط الأدبي بأشكاله المختلفة من مكتبات ودور نشر وكتاب، بسخرية وخفة، سخرية سوداء بالطبع، من الوضع الذي أصبحنا نعيش فيه، ونتجه إلى أسوأ منه، وأن مُجرد رأي بسيط حول كاتب، قد يجعلك في أحسن الأحوال؛ كافراً، ملحداً، وفي أسوأها؛ ميتاً مسحولاً!
قد يجد البعض الرمزية تسيء لنجيب محفوظ بشكلاً ما، ولكن في الحقيقة وجدتها تُدافع عنه، تهدم الضلالات، تجعله بشراً، لا إلهاً، لأنه ببساطة لو كان إلهاً فزلاته لا تُغفر. أما أنا فشعرت أن هناك رمزية خلف "نجيب محفوظ" أكبر من الوسط الأدبي، تشمل فكرة التآليه، وجعل البشر آلهة تتنفس وتمشي بيننا، فمن هو الشخص الذي لو لم تعتقد أنه آلهاً ستسحل بسببه؟ رُبما لو قولت رأيك عنه بصراحة دون تطبيل أو تضليل قد تُسجن وتُقتل؟ لو قولت صراحة أنه يُخطأ قد يتهموك بالهرطقة والكفر، كيف تهاجم صاحب الوطن يا خائن وعميل؟ بالإضافة إلى كونك شاذاً جنسياً طبعاً إكمالاً لسلسلة الاتهامات، أنت تعلم من أتحدث عنه، ذلك الذي لا يجب أن تحدث عنه إلا بالأشياء الجيدة الذي يفعلها، إن وجدت، وإن لم توجد فسنتحدث عن الأشياء الوهمية الذي فعلها.
تتابع الأحداث بجنون مُطلق، وذلك الملعب الذي يُجيد الكاتب اللعب فيه، الخيال المجنون المريض، الدماء والانحرافات البشرية التي تنحرف أكثر مما سبق، قتل وجنس، جنس وقتل، انحرافات لا حدود لها، ولا تورع، ولا خوف، قلوب أقسى من الحجارة، قلوب أصبحت خادمة للشيطان نفسه لا فارق، الذي يفرق بالنسبة إليهم هو المصلحة العامة، والنفع. وعندما نصل للنهاية، التي احتوت على مفاجئات عدة، بعض الرمزيات تنكشف والبعض الآخر يتركه الكاتب لك، حتى لو لم تلتقط ولا رمزية، أعدك ألا تخلو تجربة القراءة من المتعة، وبكل تأكيد لو أعجبتك "تلاوات المحو" ستجد "كما يليق بأب يحاول" مُثيرة للاهتمام، وكتابة مختلفة لا مثيل لها.