#ريفيوهات
"غداء في بيت الطباخة.....رحلة إخوة التراب والأشكال المجسمة"
- مما أعجبني في المسلسل السوري "صقر قريش " للمخرج الراحل حاتم علي بأنه لم يكتفي بعرض قصة الأمير عبدالرحمن بن معاوية وحياته المتقلبة، واستحقاقه لأن يلقبه عدوه "الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور" بصقر قريش، بل أضاف خطوطا جعلت للحبكة الدرامية نكهة خاصة، ومنها التركيز على فلسفة العامة- الواضحة في حواراتهم وأحاديثهم- والتي تتقلب بين عاديتها وسهولة خروجها من الألسنة وبين عظمتها في نفاذها للقلوب والعقول أكثر من نظريات أصحاب العلوم والفلسفة أنفسهم ومن ذلك نفهم العلاقة بين الأمير عبد الرحمن وأحد مواليه "بدر" التي تتحول من نفور معروف سببه إلى صداقة وثيقة مدهشة
- والقصد أن هذه الفكرة هي في رأيي أساس أفكار تلك الرواية، وهي أيضا شكلت - من أول تتابع الحبكة وفقراتها المصحوبة بدقات الساعة، والشخصيات بعرض آراءها وصراعها وشكوكها من الوليدة إلى المستعرة إلى طريقة السرد ذات الجمل المتكررة -والتي تشبه رجع الصوت- واللزمات البسيطة بدلا من وضع وصفها كشششش بدلا من وصف الوشيش فضلا عن الاستدراكات- لوحة نرى فيها المعنى ينطلق -كما انطلق معنى الحرب- باحثا عن أصله، راغبا من فطرته "أو طفلته الجوانية" التخلص من نظرة الناس له.
-- نظرية الوتر المرن "هدم المعنى الظاهري"
"بل بعده قربه لا فرق بينهم
ازداد شوقا إليه غاب أم شهدا"
نهج البردة - تميم البرغوثي
- حين ركزت مع الرواية وبالتحديد مع لسان الحرب، وجدت أن الكاتب قد وضع في معظم أركان الرواية ثنائيات متناقضة، في تكوين الشخصيات- فترى الجندي البني "الطباخ" ظهره للتلال الصخرية كإشارة على صلابة فكره ووبساطته لأنه مثلها مكشوفا للهواء، وترى الجندي الرمادي "مدرس التاريخ" ظهره للغابة كإشارة لعلمه وتجاربه المتشابكة- وفي تتابع السرد -فتجد في دقيقة واحدة يتجلى وصفين متناقضين لضوء القمر، وأيضا تجد الحرب تتحدث عن كلام البشر المجنون جدا الحكيم جدا- بل حتى في نظرة الحرب ولسان حالها، تراها متأرجحة بين المعنى ونقيضه، فتصنع منه مزيجا عجيبا متناغما مع حالتها، مزيجا تستطيع كما قلنا منه أن تدرك ذاتها رغم بعدها، وتقدر من خلاله على نقد البشر، وتفنيد نظرتهم الموحدة للمعاني دون تقليب أو تفكير، بل وإدانتهم على استهلاكهم للمعنى الظاهر لهم دون تمهل، فألقت الكرة -إذ أن الوصف الغالب على الحرب بأنها منبع الشرور" في مرمى الناس كاشفة أطماعهم وقصور نظرتهم- بوصفهم إياها بالموهوبة" ، مبرئة نفسها مستعينة-في رأيي- بالآية الكريمة "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" في عرض قصص الحب والأشياء التي أنقذتها الحرب بل وساهمت في صنعها
-ومن ذلك كله يرينا الكاتب نظرة مختلفة للأشياء، فنجد أن التناقضات والمتضادات تساهم في بناء المعاني وتجسيمها، لتتسع لفهم الجميع على حسب مكانهم يل وتقبل النظرات الأخرى إذ أنهم مشتركون في نفس التأمل والتفكير هو المعنى -كغداء الطباخة الذي أكل فيه الجنود أو الأغنية التي أنشدها نساء الحرب، أو الجثث المكونة للخندق- ومنه تنهدم النظرة السطحية التي تضع المرء بين إما أن يراها أو لا فتتولد العداوة أو الصداقة على حسب الرؤية
-فكان من الواضح والمنطقي أن تدور أمامنا تلك النظرة في الرواية كتشكل الجنين، باعتبار الصراع الأول بين الرمادي والبني-والذي زاد في منطقيته وجود الرمادي كطرف متعقل " نطفة تمثل نقطة البداية، واعتبار الخندق رحما عازلا لأجواء الحرب إلا من مشاهد وأصوات بسيطة، وباعثا من هذه العزلة تجديدا لصور الذكريات لكليهما، واعتبار مشاهد كلعب الأطفال وصوت الغناء الشجي وشريط ابنة المدرس والنبتة النامية وموكب النساء ما يشبه المشيمة التي تغذي تلك النظرة وتطرد ما كان قبلها من نظرات هدامة -وذلك يتجلى في حديث الطباخ آخر الرواية" إلى أن تأتي لحظة النضج والولادة بالخروج من الخندق والرجوع للحياة العادية
❞ "نغادر الخندق غدًا.."، قال المُدَرِّس للطبَّاخ.
رأى كلٌّ منهما عيْنَي الآخَر واضحتين، صافيتين، في نور القمر.
الطبَّاخ: "اليوم تقصد..".
"نعم.. اليوم، علينا أن نعود إلى الحرب بشكل حقيقي.. تفهم ما أقصد".
"أفهم.. يا مُدَرِّس التاريخ". ❝
--غدرات الألغام وتشييء الذكرى
لم يتركِ الدهرُ لي من بعدِ فقدِهِمُ
قلباً أُجشِّمُه صبراً وسُلوانا
فلو رأَوْني لقالوا مات أسعدُنا
وعاشَ للهَمِّ والأحزانِ أشقانا
لم يترك الموتُ منهم من يُخبِّرُني
عنهم فيُوضِحُ ما لاقَوْهُ تِبيانا
ويحَ الزّلازِلِ أفنَت مَعشَري فإذا
ذكَرتُهُم خِلتُني في القوم سَكرانا
-أسامة بن منقذ الشيزري "بتصرف"
-تطوف بنا الرواية لحقيقة مؤلمة، تسوقها الحرب بالحديث عن الألغام وغدرها بالبشر، وبعرضها لمعناه الثابت في المباغتة والتمزيق، فترفق بحال البشر الذين نجوا من غدره "وهم للمفارقة في مثل حال أسامة بن منقذ حين فقد أهله" ومنه تنتقل الحرب في الحديث عن غنائم الجنود "في سرقة الجندي لرسالة الجندي الآخر" ليتقارب الموقفان في رأيي بشكل مذهل، كأن اقتطاع الجندي من كيان زميله لغما يمزقه، وكأنه بالجزء المقطوع يمنعه من الراحة والنعيم، باعتبار أن ذاك الجزء محكوم عليه بالخلود طالما يعتني به مغتنمه كذكرى، وإن كان الجسم -جسم الجندي - يعاني مما اقتطع منه، فإن الجزء أشد معاناة وشقاء، لأن خلودها لا معنى له، فقد فقدت الصلة بكيانها الأساسي، فتتشارك بالتيه والمعاناة مع حال قائل الأبيات.
--ثنائية بسيطة
❞ لو كاتبٌ يكتب عَنِّي، يكتبني، ويتخيَّلني أتَكَلَّم عن نفسي، عن أفكاري ومشاعري وأمنياتي.. عندي فضول لأعرف وأقرأ كِتابتَه.. أُحِب جدًّا، أتساءل، كيف سيفكِّر فيَّ؟ هل يجعلني فكرة في المُطْلَق؟ مجازًا؟ أو شيئًا ثقيلًا على العالم والدنيا؟ ❝
-ولكي تزداد الرواية إحكاما، وضع الكاتب شرطا لتوهج المعاني والنظرات، وهي شفافية الذات بقدر بسيط تسمح بأن يرى المرء نفسه في عين زميله، حتى تجد لوهلة أن مراحل الجدال والرؤية هو صراع من النفس، يخصها، ومنه يسهل الإقناع بنسبة كبيرة، فحين سأل المدرس الطباخ "هل أنت متأكد من ق.تلي؟" كأنه يسأل نفسه عن جدوى الحرب، وكذا في علاقة الكاتب نفسه والحرب التي قدمها على لسانها بأنه أعطاها جزءا من رؤيته وأعطته جزءا من تشويشها بين التجسيد والروح والتخريب والإعمار" كما الاقتباس، وهنا ما ميز الطباخة عن غيرها في عين ابنها قبل الجنود
الخلاصة: عمل لطيف، في داخلي تردد بين إعجابي به وانبهاري بمشاهده، وبين ملل بدر من إسهاب بسيط أو صعوبة في استحضار بعض الصور والمعاني، لكن النهاية أعجبتني جدا